أبعاد التصعيد في أوكرانيا
يقول الرئيس الأوكراني بترو بوروشينكو إن بلاده "لاعب نشط في العالم"، وإن لديها "حلفاء موثوقٌ بهم". قد يبدو التصريح بهذا عادياً من رئيس دولةٍ يحمل في نفسه طموحاً وآمالاً لأدوارٍ كبرى تُعطى له، في سياق العلاقة المُتوتّرة بين روسيا والغرب، خصوصاً في السنوات القليلة الماضية. لكنه من دون شك قول موصول بسياقٍ من الأنشطة والأداء السياسي الذي يحمل في طيّاته مخاطر كبيرة على أوكرانيا أولاً، وعلى السِلم في أوروبا تالياً. ويطرح فضلاً عن ذلك تساؤلاً جدّياً: ما هو الموقف الذي ينتظره بوروشينكو من "حلفائه الموثوقين" في علاقته بروسيا، وخصوصاً في أزمة مضيق كيرتش؟
وفي سياق الإجابة عن هذا التساؤل، تبرز مجموعة من المُعطيات ذات المعنى، أولها أن التوتّر في مضيق كيرتش -بعد تجاوز ثلاث سفنٍ أوكرانية المياه الإقليمية الروسية، واحتجازها لاحِقاً من قِبَل الروس- غير مُستجدٍ بين كييف وموسكو، لكنه يتضمّن تصعيداً واضحاً في الموقف، يبدو بدوره مقصوداً من قِبَل بوروشينكو. أما المُعطى الثاني، فهو تصاعُد الضغوط الغربية على موسكو في السنتين المُنصرمتين، وتصويب هذه الضغوط على علاقات روسيا مع بقيّة العالم، خصوصاً العلاقات مع أميركا وأوروبا الغربية. فضلاً عن محاولةِ عزلٍ لروسيا تبدو أكثر نشاطاً مع مرور الوقت.
هذه النقطة الأخيرة لا يفوّت الرئيس الأوكراني فرصةً للمُفاخرة بها، والتلذّذ بالقول إن بلاده "شكّلت إئتلافاً عالمياً داعِماً لها"، وإن روسيا اليوم تبدو معزولةً عن العالم، بفضل سياسته كما يعتقد. لكن بالمقابل، لا تبدو شهيّة الأوروبيين، وحتى الأميركيين، مفتوحةً لتصعيد الموقف مع روسيا. الموقف الأوروبي لم يكن على قدر توقّعات بوروشينكو، فتصريحات فيديريكا موغريني التي تحدّثت فيها عن ضرورة مواجهة الخطر الروسي كانت بارِدة ولا تخدم نوايا التصعيد بقدر ما تؤشّر إلى خطرٍ أكثر أهمية سوف نعود إليه. في حين أن موقف الرئيس الأميركي دونالد ترامب اقتصر على بالونٍ إعلامي بإلغائه اللقاء مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الأرجنتين، من دون أن يُجاري كييف في حمايتها ضدّ موسكو، رابطاً تطلّعه للقاء مع بوتين بتطلّعٍ آخر مفاده "حلّ المسألة" بين الجارتين. وبالأخصّ بعد معرفته بأن أوكرانيا لم تُخطِر الجانب الروسي بنيّة سفنها عبور مضيق كيرتش قبل أن يعتقل بحارتها.
وبالقرب من هذا الموقف، كانت تقف المُستشارة الألمانية أنغيلا ميركل التي دعت أوكرانيا إلى التعقّل، ورأت ألا حل عسكرياً لهذه الأزمة. لكن وزير الخارجية الألماني السابق زيغمار غابرييل ذهب أبعد من ذلك ليُشير إلى نقطةٍ مباشرةٍ ذات أهمية حين قال: "أعتقد أنه في أية حال من الأحوال ينبغي ألا نسمح لأوكرانيا بأن تدفعنا إلى الحرب. لقد حاولت أوكرانيا القيام بذلك".
وفي حين يُصرّ بوروشينكو على التوغّل أكثر في التصعيد، يستعيد مراقبون تجربة الرئيس الجورجي السابق ميخائيل ساكاشفيلي الذي ارتكب خطأ قاتِلاً حين اعتمد على حليفه الموثوق يومها، الرئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش، فقام بخطوةٍ استفزازيةٍ ضد موسكو بإلغائه الوضع الخاص لإقليمي أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، الأمر الذي كلّفه اجتياحاً روسياً سريعاً وحاسِماً، اكتفى بوش يومها بالتفرّج عليه.
ومع اختلاف الحالتين والمُعطيات، لا يمكن إغفال المثل الجورجي في هذه اللحظة، خصوصاً وأن ساكاشفيلي حينها، وبوروشينكو اليوم، يختزنان عداءً لموسكو، قد يكون مُغرياً لتجاوز حسابات العقل نحو التهوّر والمُراهنة بمصير البلاد. وبالأخصّ أن خطوات بوروشينكو الأخيرة لا تبدو مدفوعةً بإرادةٍ أميركية في هذه المرحلة.
لكن اللافت هو استمرار الخطوات الأوكرانية التصعيدية، وآخرها تقديم بوروشينكو مشروع قانون إلى البرلمان (رادا) يهدف إلى إنهاء معاهدة الصداقة والتعاون والشراكة مع الاتحاد الروسي. فضلاً عن استدعاء كييف قوات الاحتياط. الأمر الذي ترى فيه موسكو محاولة هدم ما بُنيَ بين الشعبين على مدى سنواتٍ طويلة.
وبين هذا وذاك، يبقى أن الأخطر هو ما أشارت إليه موغريني في كلمة لها في كلية كينيدي للعلاقات الدولية في جامعة هارفارد، والذي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالعلاقات بين روسيا والولايات المتحدة، حين قالت: "اليوم، أخشى، أنه علينا الاعتراف بأن النظام العالمي الجديد لم يتجسّد بالفعل، والأسوأ من ذلك، اليوم هناك خطر حقيقي بأن شريعة الغاب ستحلّ محل سيادة القانون، اليوم يتم التشكيك حتى في تلك الاتفاقيات الدولية التي وضعت حداً للحرب البارِدة".
إذن، في مقابل السعي الروسي نحو تشكيل نظام عالميٍ جديد مُتعدّد الأقطاب، تتّجه الولايات المتحدة الأميركية إلى هدم المبنى القانوني للتفاهُمات السابقة مع روسيا ودولٍ أخرى كبرى عالمياً وإقليمياً، من خلال الانسحاب من مجموعةٍ من أهم المُعاهدات التي لطالما كبَحَت جَماح العنف، وأمّنت الحد الأدنى من الاستقرار العالمي، وأهمها الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، واتفاقية باريس للمناخ، معاهدة الأسلحة النووية، مع اتجاه إلى مزيدٍ من الانسحابات الاقتصادية والعسكرية يلوّح بها دونالد ترامب كل يوم.
فهل يقوّم بوروشينكو مخاطر اللعب بين هذه الانسحابات وتعثّر الوصول إلى نظامٍ جديدٍ آمنٍ؟