مؤتمر الحزب الجمهوري يتوّج ترامب وينتحر!

من ميّزات مؤتمري الحزبين الرئيسيين، الجمهوري والديموقراطي، أن نشاطاتهما تخضع لنظام وسيناريو محكم لتفادي المفاجآت والظهور بأحلى صورة أمام الجمهور.

أسهمت براعه ترامب الخطابية التي تلامس الغرائز وتمنيات القاعدة الانتخابية في ازاحة المرشحين الآخرين
عقب افتتاح المؤتمر وتدوين مندوبي الولايات، برز نجل ترامب، دونالد جونيور، كرئيس لفريق مندوبي ولاية نيويورك، وما لبث أن أعلن في نهاية تعداد المندوبين عن مندوبي ولايته، ما أتاح للمرشح ترامب الفوز بأغلبية كبيرة من أصوات المندوبين. تنفيذ الخطوة وضبط إيقاعها لتحدث أكبر قدر من الصخب أتت في سياق سيناريو معد بعناية مسبقاً.

في اليوم الثالث للمؤتمر، الأربعاء الماضي، حدث ما كان غير متوقع وأتى من خارج السيناريو باعتلاء المرشح السابق تيد كروز المنصة وسط ترحيب كبير، ما لبث أن تحوّل إلى صراخ وإدانة له نظراً لعدم تأييده المرشّح ترامب. وأدّت فعلته ربما إلى تعزيز دائرة مؤيدي ترامب، والأهم أن كروز بفعلته قضى على مستقبله السياسي لخروجه عن النص المعد.

المرشحة السابقة لمنصب نائب الرئيس، ساره بيلين، احتضنت كروز سياسياً ما ساعده تبوأ مواقع قيادية، وعلى الرغم من عدم حضورها مؤتمر الحزب، عبّرت بيلين عن "إساءة" كروز بالقول "خروج كروز عن تعهّده لدعم خيار الأغلبية الليلة جاء بمثابة انهائه مستقبله السياسي بنفسه".

المعلّق السياسي في قناة فوكس نيوز، شارلز كراوثهامر، كان أشد وضوحاً بالقول "أداء كروز شكّل أطول خطاب انتحاري في تاريخ السياسة الاميركية .."

أجمع المحللون عشية المؤتمر على حالة الانقسام الحادة ومقاطعة عدد من قيادات الحزب للمؤتمر، وتصرفات كروز خير دليل على تجذر الانقسامات في صفوف الحزب، وتداعياتها لمستقبل الحزب بعد الانتخابات الرئاسية.

انقسام الحزب

تزامن انعقاد المؤتمر، في كليفلاند، مع قيادات حزبية رفيعة قاطعت المؤتمر لكنها تواجدت في المدينة عينها للتشاور، أبرزهم حاكم ولاية اوهايو جون كيسك. بعض القيادات الأخرى، التي اصطفت ضد ترامب منذ البداية، ينكبون على تهيئة الظروف لاستعادة قيادة الحزب من ترامب.

ينطلق أولئك القادة من فرضية أضحت مسلّم بها بأن ترامب والحزب الجمهوري مقدمون على خسارة الانتخابات الرئاسية، بل خسارة كبيرة، ويتهيؤون لاستعادة الحزب وحجز مقعد قيادي متقدّم.

قسم آخر من قادة الحزب الجمهوري، المتحلي بالواقعية، يعيبون على الفريق السابق ويخطّئون الاستراتيجية، مستذكرين ما حلّ بموقع الحزب من تدني ونسيان في عقدي الستينيات والسبعينيات تحت زعامة روكفلر، لم يستطع التغلّب عليه الا بقدوم رونالد ريغان.

مناخ الاستقطاب الحاد في البيئة الأميركية أرخى ظلاله على بنية الحزب الجمهوري وانشقاق تيّار أكثر تشددا عام 2009، عرف بتيار حزب الشاي. دعمت قيادات الحزب, ربما مرغمة، عناصر التيار الجديد طمعاً في الفوز بأكبر نسبة ممكنة في مجلسي الكونغرس، فضلاً عن البيت الأبيض. 
وما لبث الحزب الجمهوري "التقليدي" أن فاز بأغلبية مجلسي الكونغرس، رغم خسارته لمنصب الرئاسة، الأمر الذي حفّز قادة الحزب للابتعاد عن تيار حزب الشاي، بعد استنفاذ غرضه في الحشد والإعداد الجيّد للانتخابات.

حافظ التيار الجديد على وحدته بالرغم من نفور قادة الحزب، وبرزت المرشحة السابقة ساره بيلين وتحالفها مع أشد التوجهات يمينية، لا سيما في المجال الإعلامي، وأثبت جدارته بفوز عدد من رموزه الانتخابات التمهيدية، منهم السيناتور تيد كروز.

ترسّخ تيار حزب الشاي عميقاً في بنية الحزب منذئذٍ، مستنداً إلى عدد من الممثلين في الكونغرس يرمز إليهم بالإفراط في التشدد والتعصب. 
بالمقابل أيضاً اكتسب التيار خبرة غنية في تعبئة وتنظيم الجمهور الانتخابي والتواصل معه، بخلاف الممثلين التقليديين في الحزب الذين يرمز لهم من داخل المؤسسة الحاكمة. وفي هذا السياق، صعد دونالد ترامب لمركز الصدارة ولابتعاده عن مركز صناعة القرار في واشنطن.

يضاف الى كل ذلك فشل متواصل لقادة الحزب الجمهوري في التصدي لسياسات الرئيس أوباما وافشالها، الأمر الذي عزز مناخ عدم الثقة بالممثلين التقليديين عن الحزب.

يشار إلى أن مؤسسة الحزب الجمهوري كانت تعوّل على المرشح جيب بوش بتصدّر المشهد الانتخابي، في بداية الأمر، بيد أن أداءه الكارثي في الانتخابات التمهيدية كان نتيجة لعزوف قواعد الحزب الجمهوري وكراهيتها للقادة التقليديين، ومن بينهم السيناتور المتشدد ليندسي غرام. 
وترددّ ان القاعدة الإنتخابية كانت تنظر بعين العطف على المرشحين تيد كروز والدكتور بن كارسون كأفضل ممثل عن قناعات القاعدة الانتخابية.

وبرز دونالد ترامب من خارج السياق منافساً فرض نفسه، وأسهمت براعته الخطابية التي تلامس الغرائز وتمنيات القاعدة الإنتخابية في ازاحة المرشحين الآخرين من السباق، بل خاض سباقاً لا يتسق مع التوقعات والسيناريوهات التقليدية خاصة في مجال الآلة الانتخابية. وأثبت خطأ الاستطلاعات التقليدية ولم يعرها أي اهتمام يذكر.

توّج المؤتمر الحزبي دونالد ترامب، رغم محاولات الآخرين الالتفاف عليه، والانتحار السياسي الذي ارتكبه تيد كروز. وأضحى ممسكا بمراكز القوة داخل الحزب، أقله منذ الآن وحتى الانتخابات الرئاسية.

مستقبل الحزب، هيكلياً وقيادياً، لن تتكشّف معالمه إلاّ بعد فرز نتائج الانتخابات في شهر تشرين الثاني / نوفمبر المقبل. سيصبح نجم ترامب أكثر لمعاناً إنّ توفرت ظروف فرضية أساسية، فوزه بالانتخابات الرئاسية ومحافظة الحزب الجمهوري على أغلبيته النيابية في مجلسي الكونغرس. 
ويدخل التاريخ السياسي من أوسع أبوابه مذكّراً ببروز وفوز رونالد ريغان على خصمه ومرشح المؤسسة آنذاك جورج بوش الأب.

خسارة ترامب الانتخابات الرئاسية ستؤدي إلى تعريض مستقبل الحزب للتكهّنات والانقسامات حتماً، وتحفّز قياداته التقليدية إعادة النظر لاستعادة قرار التحكم بالحزب. 
بعض العارفين بخبايا قيادات الحزب يروجون أن  استعادة الحزب ستكون ميّسرة "لو" اتخذ تيد كروز منهجاً سياسياً ذكياً في المؤتمر، وسيصعد نجمه ويتوّج رئيسا للحزب.

علاوة على المراهنة السابقة على كروز، هناك وجوه واعدة وفق قياسات قادة الحزب، منها: حاكم ولاية ويسكونسن سكوت ووكر؛ حاكم ولاية تكساس السابق ريك بيري؛ وحاكم ولاية إنديانا مايك بنس. 
من المسلّم به أن تلك الأسماء ستتردد كثيراً في حال خسارة ترامب الانتخابات الرئاسية، والإعداد لجولة الانتخابات المقبلة عام 2020.

مشاهدات من المؤتمر

التباهي والتفاخر: كل مشهد في الاحتفالات أو المؤتمرات السياسية يجري إعداده للظهور والترويج إعلامياً، وتتراجع الأبعاد الحقيقية. 
لعل أبرز دليل ما قام به مندوب ولاية فرجينيا والمدّعي العام السابق، كين كوسنيللي، الذي سارع لرميّ بطاقته الرسمية أرضاً أمام الكاميرات، السبب خسارة فريق تيد كروز إقرار قضية إجرائية حساسة.

من غرائب المشهد عودة كوسينيللي لقاعة المؤتمر بعد فترة وجيزة دون إبراز هوية عضويته لدخول القاعة التي تخضع لرقابة وإجراءات أمنية متشددة تحرم أي فرد لا يحمل البطاقة دخول القاعة.

الغائبون

المؤتمرات الحزبية تعقد بحضور كثيف للأعضاء والمندوبين وفرصة للقادة السياسيين الإختلاط بقواعد الحزب. 
مؤتمر الحزب في عصر ترامب تميّز بتغيب عدد لا بأس به من أبرز القيادات السياسية، يتصدرّهم الرؤساء السابقين جورج بوش الأب والإبن، ومرشح الحزب السابق ميت رومني، وأحد اركان الحزب الرئيسة جون ماكين.

خارج قاعة المؤتمر

استعدت الأجهزة الأمنية الأميركية جيداً لتأمين الانضباط والحماية للمؤتمر، واستقدمت المئات من رجال الشرطة من مناطق ومدن أخرى، تحسّباً للمظاهرات التي أُعلن عنها منذ زمن للاحتجاج لأمام المؤتمرين.
 أعداد رجال الشرطة والأمن فاقت عدد المتظاهرين بفارق كبير. تميّز المؤتمر هذه المرة بسلاسة العلاقة بين الشرطة والمتظاهرين، بل وفرّت الشرطة بعض الخدمات الضرورية للمتظاهرين، وتحلّت بتسامح غير معهود. 

المتظاهرون أيضاً وفوا بوعودهم بالتظاهر السلمي ونبذ العنف.

المبارزة الخطابية

التزم ترامب على غير عادته بنصائح فريق حملته الانتخابية بأنه يتعين عليه مراعاة خطاب معدّ سلفاً يقرأ على الجمهور، وظهر بمظهر يليق بمنصب الرئاسة. خطابه كان حاداً في لهجته ومراميه، وظهر كأحد السياسيين الواعدين بمنصب مقبل. ترامب أكبر الرابحين في المؤتمر بشهادة خصومه.

أبرز الخاسرين كان المرشّح السابق تيد كروز، لرفضه تأييد ترشح ترامب، وعزز الإعتقاد السائد بأنه حائز على أكبر قدر من الكراهية في مجلس الشيوخ.

تجدر الإشارة أيضاً إلى الترحيب الفاتر الذي تعرّض له زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ، ميتش ماكونيل، قبل إلقاء خطابه المؤيد لترامب. وكافأه المؤتمر بالتصفيق الحاد.

المرشح لمنصب نائب الرئيس مايك بنس جاء أداءه متسّقاً مع خبرته السياسية الطويلة، وسيحتل مكانة مميزة في المشهد السياسي المقبل بصرف النظر عن نتائج الانتخابات.

أنانية ترامب وعشقه بالظهور الإعلامي دفع نائبه المرشح بنس للمقاعد الخلفية، بيد أن خطابه المتزن في المؤتمر، نسبياً، رمى لجسر الهوة في صفوف الحزب والتخفيف ما أمكن من نزق ترامب.

مضمون خطاب ترامب، وامتدادا الحزب الجمهوري، كان ديماغوجياً شعبوياً بامتياز وينضح بالعنصرية ويهيء لصعود فاشية جديدة، خلفاً للمحافظين الجدد.