إردوغان يتّفق مع بايدن.. جيشنا إلى أفغانستان
يبدو أنَّ بايدن لن يستعجل في حسم ملف تركيا ما دام يشك في أجندات إردوغان الخاصة لإحياء ذكريات الخلافة والسلطنة العثمانية.
مع بدايات الحرب الباردة وتشكيل الحلف الأطلسي في نيسان/أبريل 1949، استعجلت تركيا في مساعيها للانضمام إلى هذا الحلف لمواجهة الخطر السوفياتي الشيوعي، كما كانت تقول آنذاك. وجاءت الحرب الكورية كفرصة ثمينة بالنسبة إلى أنقرة، التي قرّرت إرسال جيشها للقتال إلى جانب الأميركيين، في محاولة منها لإثبات ولائها للغرب، الذي فتح أبواب الحلف لها في شباط/فبراير 1952، بعد أن ضحَّت بحوالى ألف عسكري من عساكرها في كوريا.
وكان انضمام أنقرة إلى الحلف بداية التحالف الاستراتيجي التركي مع أميركا، التي أصبح لها القول الأول والأخير في مجمل تطورات تركيا الداخلية والخارجية، بعد أن أقامت عشرات القواعد البحرية والجوية والبرية في مختلف أنحاء البلاد، وما زالت تحتفظ بـ12 منها، رغم كلّ حالات الفتور والتوتر بين البلدين خلال الفترات الماضية.
وجاء "الربيع العربي" كفرصة جديدة لإثبات ولاء أنقرة في ظل حكم حزب العدالة والتنمية لأميركا، التي أرادت تغيير خارطة الجغرافيا العربية بتسليم السلطة في العديد من دولها للإسلاميين، شرط أن يستفيدوا من النموذج التركي. وقد أثبت هذا النموذج فشله بعد إسقاط حكم الإخوان في مصر وصمود الدولة السورية والتناقضات التي عاشتها تركيا، لينتهي الأمر بها بما هي عليه الآن داخلياً وخارجياً.
لم يمنع ذلك أنقرة من الاستمرار في مساعيها لأداء دور أساسي في مجمل تطورات المنطقة، انطلاقاً من سوريا، وهي قفل كلّ المعادلات التركية اللاحقة ومفتاحها، فأرسل الرئيس التركي رجب طيب إردوغان قواته إلى العراق وليبيا والصومال وأذربيجان وقطر وألبانيا، إضافة إلى مساهمات تركيا في قوات حفظ السلام في لبنان ومالي وجمهورية أفريقيا الوسطى والبوسنة وكوسوفو.
كما أرسلت أنقرة جيشها إلى أفغانستان بعد الاحتلال الأميركي لهذا البلد، إذ قال وزير الخارجية كولن باول في تصريح لـ"نيويورك تايمز" في 11 تشرين الثاني/نوفمبر 2001: "إنَّ بعض الدول الإسلامية، وفي مقدّمتها تركيا، عبرت لنا عن استعدادها لإرسال قواتها إلى أفغانستان، للمساهمة في تحقيق الأمن في العاصمة كابول وجوارها". وتحتفظ تركيا منذ ذلك التاريخ بحوالى ألفي عسكري في أفغانستان، يقومون بحماية مطار كابول، كما يقومون بتدريب عناصر الأمن الأفغاني، في الوقت الذي تنفّذ الشركات التركية مشاريع تنموية فيها.
وجاء حديث الرئيس إردوغان بعد لقائه الرئيس بايدن عن استعداده لإرسال الجيش التركي وموافقة بايدن على ذلك، ليدفع المعارضة إلى التذكير بتجربة الجيش التركي في كوريا قبل 70 عاماً. وقال فاروق لوغ أوغلو، سفير تركيا السابق في واشنطن، "إن إردوغان، من خلال إرسال الجيش إلى أفغانستان، يسعى إلى كسب ودّ ودعم الرئيس بايدن الذي وصفه بالاستبدادي، وأكد ضرورة التخلص منه"، فيما ذكَّر الجنرال المتقاعد أحمد ياووز بـ"إرسال رئيس الوزراء الأسبق عدنان مندرس الجيش التركي إلى كوريا في بداية الخمسينيات"، وقال: "التاريخ يكرر نفسه. هذه المرة، يرسل إردوغان عساكرنا إلى أفغانستان لحماية المصالح الأميركية، وهو ما فعله في سوريا، وبعد ذلك في ليبيا، فقد زارها وزراء الداخلية والدفاع والخارجية ورئيس الأركان ورئيس المخابرات ومستشارو إردوغان قبل يوم من لقاء بايدن، وذلك إشارة من إردوغان الذي أراد أن يقول لواشنطن إنه على استعداد للتنسيق والتعاون الدائم والشامل مع أميركا في كل المناطق ذات الاهتمام المشترك بما فيها أفغانستان ولاحقاً الصومال ومنطقة الخليج والقوقاز".
أما رئيس تحرير قناة "Tele 1" الإخبارية، ماردان ينارداغ، فقد اعتبر "حماس إردوغان لإرسال الجيش التركي إلى أفغانستان جزءاً من أيديولوجيته العقائدية التي طبَّقها بالتحالف مع جميع القوى والفصائل الإسلامية، المسلحة منها وغير المسلحة، في سوريا وليبيا".
حديث الرئيس إردوغان عن ضرورة إشراك باكستان وهنغاريا في المهمة العسكرية التركية يهدف إلى كسب ود "طالبان" ذات الأصول الباشتونية، فيما يسعى من خلال الحديث عن الرئيس الهنغاري أوروبان (قال إنه من أصول عثمانية) لكسب ودّ الاتحاد الأوروبي ودعمه سياسياً ومالياً، من دون أن نتجاهل علاقات أنقرة منذ فترة مع حركة "طالبان" التي توسّطت قطر (حليف إردوغان) بينها وبين "الشيطان الأكبر" أميركا، التي نسيت أنها هي التي احتلّت أفغانستان، فقد أدت واشنطن ومخابراتها مع باكستان، وبتمويل سعودي وإماراتي، دوراً أساسياً في دعم المجاهدين الأفغان خلال الاحتلال السوفياتي، كما ساهمت في تشكيل "القاعدة"، ومن بعدها حركة "طالبان"، وإيصالها إلى السلطة في أيلول/سبتمبر 1996.
وجاء مقتل أسامة بن لادن في الأول من أيار/مايو 2011 كمؤشر مهم على فتح صفحة جديدة في المخطط الأميركي في المنطقة العربية، إذ حلَّت "داعش" محلّ "القاعدة"، ثم بقيت الساحة لـ"جبهة النصرة" بعد مقتل البغدادي، مع استمرار الصراع على مناطق النفوذ بين القاعدة و"داعش" في أفريقيا، وربما لاحقاً في أفغانستان وآسيا الوسطى، بعد استلام "طالبان" السلطة هناك.
كل ذلك مع استمرار اهتمام دول الجوار الأفغاني بهذا التغيير المحتمل، إذ تجاور أفغانستان الصين بحوالى 75 كم من الحدود البرية القريبة من منطقة مسلمي الإيغور، والآلاف منهم يقاتلون في سوريا.
بدورها، تراقب إيران تطوّرات الوضع في أفغانستان، التي تمتدّ حدودها معها إلى حوالى 950 كم، ويعدّ حوالى 15% من سكان أفغانستان من الشيعة. أما الاهتمام الأميركي، وبالتالي الأوروبي، بهذا البلد، فله أبعاد مختلفة، إضافةً إلى موقعه الجغرافي وثرواته المعدنية المختلفة، وأهمها أن 90% من مختلف أنواع المخدرات التي تصل أوروبا وأميركا تأتي منه.
لم تبالِ هذه الدول الغربية بقنابل باكستان النووية، في الوقت الذي تقيم الدنيا وتقعدها على احتمالات امتلاك إيران مثل هذا السلاح الذي قد يهدد "إسرائيل"، بحسب ادعاءات هذه الدول وحلفائها في دول الخليج. ويعرف الجميع أنها تتنافس في ما بينها، ومعها تركيا، لكسب باكستان إلى جانبها، لأنَّ من يكسب هذا البلد، الذي يتميز بحدود بطول 2650 كم مع أفغانستان، يتقدم على الآخرين في كسب موطئ قدم استراتيجي في المنطقة، وهي بوابة الانفتاح على جمهوريات آسيا الوسطى الإسلامية ذات الأصل التركي، وهي أيضاً الحديقة الخلفية لروسيا.
تراقب روسيا بدورها كلّ التطورات عن كثب، لما لها من ذكريات سيّئة في أفغانستان، كانت كافية لسقوط الاتحاد السوفياتي. ويعرف الجميع أن الرئيس بوتين لن يسمح لأحد بأن يكرر هذه التجربة، مع استمرار أميركا والحلف الأطلسي وحلفائهما في مساعيهما لتضييق الحصار عليها، كما يعرفون أن تركيا هي الحليف الأهم والأكثر تأثيراً في مشاريع واشنطن. وقد كانت في سنوات الحرب الباردة مخفراً متقدّماً للدفاع عن الحلف الأطلسي ضد حلف "وارسو".
وقد انضم معظم أعضائه السابقين، باستثناء أوكرانيا وروسيا البيضاء ومولدوفا، إلى الحلف الأطلسي، مع استمرار مساعي الرئيس إردوغان لضم أوكرانيا وجورجيا إلى الحلف. ويرى البعض في ذلك محاولة جديدة من إردوغان، وقد تكون الأخيرة، لإثبات قوته للحليف الأكبر بايدن.
ويبدو أنَّ الأخير لن يستعجل في حسم ملف تركيا، ما دام يشك في أجندات إردوغان الخاصة لإحياء ذكريات الخلافة والسلطنة العثمانية، ولو بتسميات مختلفة يريد لها أن تدغدغ مشاعر أنصاره وأتباعه في الداخل، وبين إسلاميي المنطقة والعالم، وخصوصاً بعد أن أصبح الحاكم المطلق للبلاد، وسيطر على جميع أجهزة الدولة، وأهمها جيش أتاتورك، الذي يريد له أن يتحول إلى جيش انكشاري ينفّذ تعليماته، ويخدم مشاريعه ومخططاته، ولو كان ذلك بخطوة إلى الأمام وخطوتين إلى الوراء!