ما هي قضيّة أحرار العالم في فلسطين المحتلّة؟
من بين الأبعاد التي تدلّ على تحلّل استعمار فلسطين، نهوض حركة أحرار العالم في مواجهة الصهيونية، لكنها حركة آليات عمل لا تتكامل من دون حركة عربية وإسلامية مماثلة، تتخذ تحرير فلسطين مدخلاً لتحرّر مجتمعاتها.
الحركة الواسعة التي اندلعت في أميركا وأوروبا على وجه الخصوص، ليست بمجملها مجرّد حركة تضامنية عاطفية نصرة لإخوانها في الإنسانية ضد العدوان الإسرائيلي على الأرض والمقدسات، وضد جرائم الحرب في غزة.
فضلاً عن التضامن الإنساني الأممي، تستند هذه الحركة إلى جذور وأبعاد سياسية لم تخمد يوماً في الصراع ضد الإمبريالية والاستعمار، وعلى رأسه احتلال فلسطين. وفي هذا السياق، يخوض أحرار الدول الغربية الصراع ضد صهيونية حكوماتهم نصرةً لفلسطين، وهي عنوان ورمز تحرّرهم من ربقة منظومة العنصرية والاضطهاد الأيديولوجي والطبقي.
الحكومات الغربية التي لاحقت أحرار مجتمعاتها على الدوام بتهمة "معاداة السامية"، ثم بتجريم المقاطعة ونقد "إسرائيل"، حاربتهم، كما حاربت الشعب الفلسطيني ودول الجنوب، بسلاح "مباحثات السلام" الثقيل، دعماً لاستكمال احتلال فلسطين، عبر تهويد المقدسات والأراضي الفلسطينية التي احتلتها "إسرائيل" في حرب الـ67.
أطاحت الحكومات الغربية بإنجازات دول الجنوب وحركة عدم الانحياز ضد الصهيونية، والّتي تمثّلت بقرار الجمعيّة العامة للأمم المتحدة رقم 3379 في العام 1975، اعتبار الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية، في وقت كانت منظمة التحرير تقاتل بالسلاح، فألغت الدول الغربية، بالضغط على دول الجنوب، القرار في العام 1991، تحت شعار "مباحثات مدريد للسّلام".
اتفاقيات "أوسلو" في العام 1993، واسمها الرسمي "إعلان المبادئ حول ترتيبات الحكم الذاتي الانتقالي"، لم توجّه سهامها إلى دول الجنوب التي لم تكن تعترف بـ"إسرائيل" (نصف عدد دول العالم، بما فيها الفاتيكان) فحسب، بل وجّهت سهامها أيضاً إلى حركة أحرار العالم الشعبية التي أعاد إليها روحها انتصار المقاومة في لبنان ضد "إسرائيل" في العام 2000.
أوقد انتصار المقاومة والانتفاضة الفلسطينية شعلة أحرار العالم في مواجهة الصهيونية، بالعودة في "دوربان 1" في العام 2001 إلى التصويب على وجود "إسرائيل" القائم على الاحتلال والتطهير العرقي. هذه الشعلة المتّقدة في مواجهة صهيونية الحكومات الغربية ومنظومتها المتحوّلة إلى المنظومة النيوليبرالية، دفعت أحرار الدول الغربية إلى إدراج مواجهة الاحتلال الإسرائيلي في إطار حركة المناهضة العالمية للمنظومة النيوليبرالية، وأنشأت آليات عمل فكري وميداني تتكامل فيها القضايا الوطنية والسياسية والاقتصادية والبيئية والفكرية... بحسب اهتمام متطوعي المجتمع المدني من الفئات الاجتماعية والمهنية والروحية والنقابات والتيارات... من أجل عالم أكثر إنسانية في مواجهة منظومة التوحّش.
لم يبقَ حيّ من أحياء المدن الفرنسية والإيطالية والإسبانية من دون إنشاء "لجنة فلسطين"، إثر غزو العراق وصعود حركة "أوقفوا الحرب" في بريطانيا، ثم توسّعت وتعمّقت بعد انتصار المقاومة في لبنان في العام 2006، فعمّت المنتديات الاجتماعية المحلية والإقليمية والمنتدى الاجتماعي العالمي في بورتو أليغري ودوربان وباماكو... وفي صدارتها مواجهة الصهيونية في "إسرائيل" وتقويض عصبها الأساس في المنظومة الأميركية والغربية.
ومن بين ما أخمد هذا الحراك الشعبي الواسع، تسعير الدول الغربية ومؤسساتها الدولية تغطية استكمال الاحتلال الإسرائيلي بشعار "حل الدولتين" الذي تبنّته السلطة الفلسطينية و"مبادرة الدول العربية" في بيروت، فالدول الغربية ومؤسساتها الدولية التي تكفّلت بانهيار الدول العربية وإجهاض انتفاضات العالم العربي عبر أدواتها من "المنظمات غير الحكومية"، حمايةً للاحتلال ولمنظومة التوحّش، كانت قد وضعت خطة الاستخبارات الأميركية، على لسان جين شارب (الانتقال إلى الديمقراطية)، موضع التطبيق، بغزوها المنتديات والعمل على تفتيت حركة المناهضة وإجهاضها.
لم تمت هذه الحركة في أوروبا وبريطانيا، كما أثبتت الاحتجاجات في هذه الدول ضدّ العدوان الإسرائيلي على القدس، وضد جرائم الحرب، فالرئيس الفرنسي الذي استغلّ فترة فراغ باريس من السكان من أجل دعم "إسرائيل" في "حق الدفاع عن نفسها"، لم يستطع منع التظاهرات في باريس وساحة الجمهورية الرمزية بعد عودة الباريسيين من العطلة.
صهيونية الدول الغربية سعت بكل جهدها لتكسير مناهضة الصهيونية ومنظومة التوحّش، بتسليط إعلامها و"مثقّفيها" رأس حربة لتحطيمها، لكن السلاح الأمضى الذي تحارب به هو سلاح تحويل المعركة ضد الصهيونية إلى معركة دينية بين "القيَم الديمقراطية الغربية" وقيَم ما تسميه العنف والكراهية.... التي تستند إليها عنصرية الإسلاموفوبيا وعنصرية الادعاء العلماني (قوانين مكافحة الانفصالية الإسلاموية) الذي تأخذه ديناً لها مقابل الأديان السماوية.
هذه الحرب الدينيّة من أجل تمجيد الصهيونية و"دولة" الاحتلال، يغذّيها الإسلام السياسي في المجتمعات الغربية من الجانب الآخر للعملة نفسها، والذي يأخذ ملايين المسلمين وأنصارهم رهائن سياسية، خدمة لطموحات الإخوان المسلمين وجماعات الأنظمة العربية وتركيا في تسعير الحرب الدينية خدمة لمصالح سياسيّة على صلة مع إرهاب جماعات "القاعدة" و"داعش"، التي تفجّر مساهمة المسلمين الأوروبيين في تغيير منظومة الدول الغربية في عقر دارها وتغيير سياساتها الصهيونية في فلسطين والمنطقة.
الهواء النظيف الّذي يمكنه أن يقوّض عصب الصهيونية في الدول الغربية واحتلال فلسطين، يهبّ من المركز في أميركا، التي يخوض أحرارها معركة المواجهة مع العنصرية ومنظومة التوحّش في مركزها، وفي امتدادها احتلال فلسطين دفاعاً عن الإنسانيّة جمعاء.
فعالية هذا الهواء النظيف هي بين معركتين في حرب محور المقاومة لتحطيم "دولة" الاحتلال، فحركة أحرار العالم تستند في فعاليّة الضغط لتغيير السياسات إلى انتصارات المقاومة ضد "إسرائيل"، لكنها تسنده بين معركتين في التصويب على إزالة الاحتلال، وفي آليات العمل الحقوقي والسياسي والمدني الذي يفتتحه جيل الشباب الفلسطيني والعربي بتحمّل مسؤولية المواجهة أكثر من الإعراب عن التضامن العاطفي والأخلاقي.
أميركا والدول الغربية والمؤسَّسات الدوليّة تأمل إضعاف المقاومة وإجهاض حركة أحرار العالم لإنقاذ "دولة" الاحتلال من التحلّل، عبر ذرّ رماد "الحل السياسي" في العيون، فالكثير من العرب والمسلمين الَّذين عزّزوا دعم "إسرائيل" أكثر من 30 سنة، بذريعة "حلّ الدولتين"، يجدّدون شبابهم بإشارة أميركية. وعندما تشير أميركا بإصبعها إلى دعم الاحتلال، يروق لهم النظر إلى الأصبع.