عسكر أتاتورك.. في خدمة إردوغان وعقيدته!
إردوغان بات يسيطر على جميع أجهزة الدولة ومرافقها التي يريد لها أن تساعده على تحقيق أهدافه في السياسة الداخليّة والخارجيّة.
حتى سنوات قليلة مضت، كان العسكر صاحب القول الأكبر في مجمل تطورات تركيا الداخليّة والخارجيّة، إلى أن جاء رجب طيب إردوغان، فوضعهم في خدمته وخدمة مشاريعه ومخططاته السياسية والعقائدية على الصعيدين الداخلي والخارجي.
بعد الانتقال إلى التعددية الحزبية في العام 1950، تدخّل العسكر 4 مرات (1971، 1980، 1997، 1960)، وأطاح بالحكومات المدنية، وكان للأميركيين دائماً ضلع مباشر وغير مباشر في هذه التدخلات التي تزامن توقيتها مع تطورات إقليميّة لها علاقة بحسابات واشنطن في المنطقة، وكان العسكر دائماً ضد أيّ نشاط أو تحرك إسلاميّ بدأ بعد قيام الجمهورية التي أعلنها مصطفى كمال أتاتورك في العام 1923.
ولم يعرقل ذلك الإسلاميين ويحول دون وصولهم إلى السلطة عبر ائتلافات حكومية مختلفة، وذلك في عهد الزعيم الإسلامي نجم الدين أربكان، الذي أصبح نائباً لرئيس الوزراء في حكومة بولنت أجويت اليسارية (1974)، ثم في حكومات سليمان ديميريل اليمينية حتى العام 1980، ثم أصبح رئيساً للوزراء مع اليمينية العلمانية تانسو تشيللر، إلى أن أطاح به العسكر في شباط/فبراير 1997، وهو ما كان كافياً بالنسبة إلى إردوغان ورفاقه، وفي مقدمتهم عبد الله جول وعبد اللطيف شنار وبولنت أرينج وآخرون (وهم الآن جميعاً ضده)، للتمرد عليه، بعد أن اتهموه بالخوف من العسكر والتهرب من مواجهته.
وهبَّت الرياح بعد ذلك وفق ما يشتهيه مزاج إردوغان، فحالف الحظ حزب العدالة والتنمية ليفوز في انتخابات تشرين الثاني/نوفمبر 2002، ونجح رئيس الوزراء عبد الله جول في إقناع حزب الشعب الجمهوري بتغيير الدستور ورفع الحظر المفروض على إردوغان الذي أصبح رئيساً للوزراء في آذار/مارس 2003، بعد 3 أشهر من لقائه الرئيس بوش في البيت الأبيض في 10 كانون الأول/ديسمبر، ولم يكن آنذاك رئيساً للحكومة.
وشهدت تركيا بعد ذلك التاريخ تطورات مثيرة على صعيد السياستين الداخلية والخارجية، بدأت بتأييد إردوغان للاحتلال الأميركي للعراق في 20 آذار/مارس 2002، واستمرت بسلسلة من الأحداث المثيرة التي أوصلت تركيا وإردوغان إلى ما هو عليه الآن في جميع المجالات، وهو ما دفع الأوساط الإعلامية والسياسية إلى الحديث عن عشرات السيناريوهات المدعومة أميركياً، والتي ساعدت إردوغان على إحكام سيطرته على جميع مفاصل الدولة التركية، وأهمها المؤسسة العسكرية.
لقد تعرض الجنرالات اعتباراً من العام 2007 لحملة اعتقالات واسعة شملت معظم قادة القوات المسلحة من المتقاعدين وغير المتقاعدين، بمن فيهم رئيس الأركان إيلكار باشبوغ، وذلك بتهمة التخطيط للإطاحة بالحكومة المنتخبة، وأدى جهاز الأمن والمخابرات والقضاة ووكلاء النيابة من أتباع الداعية الإسلامي فتح الله جولان (مقيم في أميركا منذ العام 1998) دوراً أساسياً في هذه الحملات التي تبناها الرئيس عبد الله جول ورئيس الوزراء إردوغان، وكانا آنذاك حليفين استراتيجيين لجولان.
وأثبتت التطورات اللاحقة أن جول بصفته رئيس الجمهورية وإردوغان بصفته رئيس الوزراء، قاما بترقية وتعيين المئات، بل والآلاف من الجنرالات والضباط الموالين لجولان في مناصب حساسة في الجيش، إضافةً إلى عشرات الآلاف من المسؤولين الكبار في جميع أجهزة الدولة، وهو ما ساعد هؤلاء، وخصوصاً الجنرالات، للقيام بمحاولة الانقلاب الفاشلة في 15 تموز/يوليو 2016، بعد التخلص من معظم الجنرالات العلمانيين.
وقد استغلَّ إردوغان هذه المحاولة، فتخلّص من كل معارضيه داخل المؤسسة العسكرية، بل وحتى المؤسسات الأخرى، كالأمن والمخابرات والقضاء، وتحدَّثت المعلومات عن طرد (ووضع البعض منهم في السجون) حوالى 45 ألفاً من جهاز الأمن وقوات الجندرمة (الدرك) التابعة لوزارة الداخلية.
واعترف وزير الدفاع خلوصي آكار بطرد حوالى 21 ألف عسكري من الجيش ووضع الكثير منهم في السجون، بتهمة العلاقة بمحاولة الانقلاب التي ساعدت إردوغان لتحقيق كلّ أهدافه، فقد نجح في تغيير الدستور ليصبح الحاكم المطلق للبلاد، ثم غيّر النظام العسكري، إذ أصبح وزير الدفاع هو الأهم في المؤسسة العسكريّة بدلاً من رئيس الأركان. وتوقعت الصحافية ميسر يلدز "إلغاء منصبه، لتكون كل الأمور بيد وزير الدفاع مباشرة، ومن خلاله بيد إردوغان، القائد الأعلى للقوات المسلحة".
وكان التغيير الأهم في المؤسسة العسكرية يكمن في تركيبة مجلس الشورى العسكري، وهو أعلى هيئة عسكرية مسؤولة عن أمور الجيش. وكان هذا المجلس يضم 15 من قيادات القوات المسلحة، ويترأس اجتماعاته رئيس الجمهورية، والآن يضمّ 8 مدنيين (وزراء ورئيس المخابرات) و4 عسكر، وهم رئيس الأركان وقادة القوات البرية والبحرية.
ولفت العقيد المتقاعد أحمد زكي آوجوك في مقاله، الأسبوع الماضي، في موقع "آوضا تي في" الإخباري الانتباه إلى القرارات التي اتخذها مجلس الشورى العسكري منذ محاولة الانقلاب الفاشلة وحتى الآن، وقال: "بعد محاولة الانقلاب الفاشلة، تم طرد 180 (من أصل 358) من جنرالات الجيش (عميد، لواء، فريق، فريق أول)، وحوالى 70% من الضباط ذوي الرتب العليا. كما تمت إحالة 235 جنرالاً آخرين إلى التقاعد خلال السنوات الأربع الماضية. بمعنى آخر، إنَّ ثلاثة أرباع الجنرالات وثلثي الضباط وثلث ضباط الصف وثلثي الجنود المتطوعين الموجودين في الجيش الآن، تمت ترقيتهم وتعيينهم خلال السنوات الأربع من قبل مجلس الشورى العسكري بتركيبته الجديدة".
ويرى الكثيرون في هذه المعطيات ما يكفي من الضمانات بالنسبة إلى الرئيس إردوغان، الذي يبدو واضحاً من خلال وزير دفاعه خلوصي آكار (كان رئيساً للأركان خلال محاولة الانقلاب الفاشلة، وأسره الانقلابيون ثم تركوه) ورئيس مخابراته هاكان فيدان، أنه بات يسيطر على جميع أجهزة الدولة ومرافقها التي يريد لها أن تساعده على تحقيق أهدافه في السياسة الداخلية والخارجية، وهو ما يفسر مرافقة هذا الثنائي له في جميع زياراته الخارجية المهمّة، وخصوصاً بعد محاولة الانقلاب الفاشلة، إذ سمح الرئيس بوتين بعدها بأربعين يوماً للجيش التركي بدخول جرابلس، ومنها إلى الشمال السوري عموماً.
ولم يتردّد إردوغان في التخلّص من الجنرالات الذين اعترضوا على عملياته العسكرية في سوريا وليبيا، وهو ما ساعده أيضاً لاستخدام الجيش وفق حساباته السياسية والعقائدية، وهو الحال في الداخل التركي، إذ يعمل على أسلمة الدولة بكامل مؤسساتها، وفي مقدمتها القوات المسلحة، التي أصبحت تحت إمرة أستاذ في التاريخ العثماني.
وكان إردوغان قد أمر بإغلاق جميع الكليات والمدارس العسكرية، وأسّس بدلاً منها جامعة الدفاع الوطني، وهي المسؤولة عن قبول طلبات الذين يودون الانضمام إلى الجيش (مع الاعتراف لخريجي المدارس الدينية من الشباب والشابات بالأولوية). وأهمّ شرط في ذلك هو التأكد من شعورهم القومي والديني، وهو ما يعني في نهاية المطاف ولاءهم للرئيس إردوغان شخصياً وعقائدياً.
وأشار الجنرال المتقاعد خلدون صولمازتورك إلى المرسوم الذي أصدره الرئيس إردوغان قبل أسبوعين، "وسمح بموجبه للمخابرات وقوات الأمن باستخدام أسلحة الجيش لمواجهة الإرهاب وأعمال الشغب"، وقال: "يبدو واضحاً أن إردوغان يسعى من خلال المرسوم وقرارات أخرى إلى تشكيل ميليشيات موالية له بشكل مباشر، وهو عمل خطير جداً، وخصوصاً إذا فكّر في الاستفادة من هذه الميليشيات في حال خسارته في الانتخابات القادمة، وهو ما سعى إليه الرئيس ترامب، مع الانتباه إلى المقولات المشتركة بينهما، وهي الدين والقومية، ولكن بفارق الديموقراطية بين البلدين.