المصالحة التركية السعودية القطرية.. ماذا عن "الصيدة"؟
هل تعود السعودية وتركيا وقطر مرة أخرى إلى سوريا بعد أن فلتت منهم "الصيدة" في المرة الأولى؟
هناك مقولتان مهمتان في الثقافة التركية، الأولى على لسان كاتب النشيد الوطني التركي محمد عاكف: "يقولون عن التاريخ إنه يكرر نفسه، فلو استخلصت الدروس منه لما كرر نفسه"، والأخرى عثمانية وتقول: "ذاكرة البشر معتلة بالنسيان".
وتنطبق كلا المقولتين تماماً على الحالة التي نعيشها الآن في المنطقة، وأقصد بذلك المصالحة المحتملة والنهائية بين تركيا والسعودية وقطر، وأياً كان الوسيط أو الأطراف الذين سينضمون إلى هذه المصالحة لاحقاً.
وقبل أن ندخل في التفاصيل، ما علينا إلا أن نتذكَّر ما قاله حمد بن جاسم لتلفزيون قطر في 27 تشرين الأول/أكتوبر 2017، حتى لا نسمح للتاريخ بأن يكرّر نفسه:
"عندما بدأ الموضوع في سوريا، توجهت إلى المملكة العربية السعودية، وقابلت الملك عبد الله بناء على تعليمات من سمو الأمير الوالد، وشرحت له الوضع، وقال لي: "نحن معاكم، انتو امشو في هذا الموضوع ونحن ننسق، ولكن أنتم خليكم مستلمين الموضوع". وأضاف "استلمنا الموضوع، وأنا لا أريد أن أدخل في التفاصيل، ولدينا أدلة كاملة على هذا الاستلام. وكان كل شيء يذهب إلى تركيا ومنها إلى سوريا، كما كان التنسيق مع القوات الأميركية وكل شيء يتم عن طريق القوات الأميركية والأتراك ونحن والإخوان السعوديين والعسكريين الآخرين. ويمكن قد حصل خطأ في ما يتعلق بدعم فصيل أو غيره، ولكن ليس داعش، لأن في ذلك مبالغة. ويمكن النصرة كان في علاقة معها، وأنا لا أدري في هذا الموضوع، ولكن أقول عندما قالوا لنا إن النصرة غير مقبولة، توقف هذا الدعم، وكان التركيز على تحرير سوريا فقط، فتهاوشنا على الصيدة، لكنها فلتت منا، ونحن كنا قاعدين نتهاوش عليها فيما بيننا، فقتل من قتل في سوريا وبشار موجود. طيب أنتم الآن تقولون (آل سعود) بشار باقي خلي يبقى نحن ما عندنا مانع وما عندنا ثأر مع بشار، وكان صديقنا لكن أنتم كنتم معنا في خندق واحد. غيرتم موقفكم قولوا لنا نحن أيضاً نغير. وأنا ما عندي مانع إنو واحد يغير لما يجد نفسه غلطان، ولكن عليه أن يبلغ شريكه بأن الوضع الفلاني لم يصلح ونخلي بشار أو نعمل كذا وكذا.. هذه هي الحالات التي جعلت المشاكل التي ما تخلي أي تقدم في مجلس التعاون. ونحن ما عندنا خلاف على أن تكون المملكة في المقدمة".
هذه المقابلة، وهي طويلة، شاهدتها في ما بعد أكثر من عشرات المرات، لأن كل كلمة فيها مهمة (مع تعابير وجه حمد)، وتعبر عن كل ما عاشته سوريا خلال السنوات العشر الماضية، وهي ما زالت كذلك، كما تثبت تآمر أنظمة الخليج مع الآخرين ضد دول المنطقة وشعوبها.
وهنا يطرح السؤال نفسه من جديد: هل يعود الثلاثي السعودي التركي القطري ثانية إلى سوريا بعد أن فلتت منهم "الصيدة" في المرة الأولى؟ تعالوا نستذكر بعض المحطات الرئيسية للسنوات العشر الماضية، حتى يتسنى لنا فهم احتمالات السنوات العشر القادمة ومفاجآتها.
باعتراف حمد بن جاسم، أدت هذه الدول الثلاث الدور الرئيسي في تطورات الحالة السورية بأدق تفاصيلها. ويتذكر الجميع كيف سافر وزير الخارجية أحمد داوود أوغلو إلى القاهرة عشية اجتماع الجامعة العربية، التي علّقت في 11 تشرين الثاني/نوفمبر 2011 عضوية سوريا.
وكان داوود أوغلو وحمد بن جاسم وسعود الفيصل الآمرين الناهين في الاجتماع الذي لم يدمر سوريا فقط، بل المنطقة بأكملها أيضاً. كما سبق هذا الاجتماع اتصالات مكثفة بين الثلاثي المذكور وكل من هيلاري كلينتون ووزراء خارجية فرنسا لوران فابيوس والبريطاني وليام هيغ والألماني شتاينماير، وهو الآن رئيس ألمانيا.
وكان في البيت الأبيض آنذاك الرئيس أوباما ونائبه جو بايدن، اللذان تراجعا عن موقفهما المؤيد لإردوغان بعد العام 2014، إذ أعرب بايدن في تشرين الأول/أكتوبر 2014 "عن قلقه من دعم تركيا والسعودية والإمارات (تجاهل قطر أو ربما لم يتذكّرها) للجماعات الإرهابية في سوريا".
المصالحة المحتملة التي لم يعلن عن تفاصيلها، يبدو أن تفعيلها سيكون بعد استلام الرئيس بايدن السلطة، في الوقت الذي يراهن البعض على أسباب ومبررات وأهداف هذا التحالف "الجديد-القديم"، والذي أدى دوراً أساسياً في مجمل تطورات "الربيع العربي"، على الأقل حتى انقلاب السيسي المدعوم من آل سعود وآل نهيان على الإخواني محمد مرسي المدعوم من إردوغان وآل ثاني.
وكان هذا الانقلاب الذي لم يتأخر الغرب في تأييده بداية التوازنات الجديدة التي انعكست على الوضع السوري، وخصوصاً بعد احتلال داعش في حزيران/يونيو 2014 للموصل وثلث مساحة العراق. وقد دفع ذلك العواصم الغربية، وفي مقدمتها واشنطن، إلى إعادة النظر في سياساتها حيال الوضع الجديد في المنطقة، وتحديداً سوريا والعراق، وخصوصاً بعد أن أضاء الرئيس الروسي بوتين الضوء الأخضر للجيش التركي الذي دخل جرابلس في 24 آب/أغسطس 2016، بعد شهر من محاولة الانقلاب الفاشلة التي استغلها إردوغان ليتخلص من جميع معارضيه، بعد أن سيطر على جميع مرافق الدولة وأجهزتها ومؤسساتها، وأصبح الحاكم المطلق للبلاد.
وكان ذلك بداية التدخل التركي المباشر والشامل في مجمل تفاصيل الأزمة السورية، ليصبح إردوغان صاحب القول الأهم في هذا الملف، بعد أن أصبحت كل قوى المعارضة السورية، السياسية منها والمسلحة، تحت المظلة التركية، بغياب الدور السعودي التقليدي.
وجاء قرار الرياض وأبو ظبي والمنامة، ومعها القاهرة وحكومة طبرق وحكومة هادي اليمنية، بقطع العلاقات مع الدوحة في 5 حزيران/يونيو 2017، ليساعد إردوغان في مساعيه لدعم دوره وترسيخه في المنطقة، بعد أن أرسل قواته إلى قطر بعد أسبوعين من ذلك.
وقد أصبحت أنقرة لاعباً أساسياً، ليس فقط في سوريا، بل في منطقة الخليج عموماً، وهو ما انعكس على مجمل مشاريع الرئيس إردوغان ومخططاته، ليس فقط في ليبيا والصومال واليمن فحسب، بل في جميع المناطق التي "وطئتها أقدام العثمانيين"، والقول للرئيس إردوغان، وآخر مثال على ذلك التدخل التركي في إقليم ناغورنو كاراباخ.
والسؤال هنا: لماذا استعجلت وباركت أنقرة المصالحة السعودية - القطرية، ومنها الخليجية، التي سبقتها زيارة الأمير تميم إلى أنقرة، كما سبقها اتصال هاتفي من إردوغان مع العاهل السعودي سلمان، من دون أن نتجاهل الاتصالات التي أجراها أيضاً الرئيس الإيراني روحاني مع الأمير تميم والرئيس إردوغان، لتعلن طهران أيضاً عن مباركتها لمثل هذه المصالحة!
ويراهن الكثيرون على احتمالات نجاحها في إعادة الود والحماس بين الرياض والدوحة إلى ما كان عليه الوضع في سوريا مع بدايات "الربيع العربي"، كما حدثنا عن ذلك حمد بن جاسم؟ ثم هل وكيف سينجح الرئيس إردوغان في إقناع آل سعود بضرورة دعمه في مشروعه السوري، وهو الذي قال أكثر من مرة إنه لن يتراجع عنه حتى لو اضطر إلى التراجع في ساحات أخرى، كليبيا مثلاً، أم أن الرياض "باسم ما تبقى من وحدة الصف العربي" ستنجح في إقناع إردوغان أو إجباره على إغلاق الملف السوري بعد اتفاق روسي - أميركي في هذا الموضوع!؟
كما أن الرياض (الأمير محمد بن سلمان) تريد لهذا الموضوع أن يساعدها على التخلص من الضغوط الأميركية في موضوع التطبيع مع "إسرائيل"، وبات واضحاً أن دورها سيكون القاسم المشترك لتطورات المرحلة القادمة، من دون اعتراض من أي طرف في المنطقة.
وسيدفع كل ذلك الرئيس بايدن مع الربيع القادم إلى تحقيق المصالحة الشاملة في المنطقة، التي سبق أن وضع الرئيس الأسبق بيل كلينتون خطواته الأولى على طريقها من خلال جمع عرفات مع رابين وبيريز في كامب ديفيد، من دون أن يهمل لقاءاته مع الرئيس الراحل حافظ الأسد!
وقد يكون هذا الاحتمال هو الذي دفع الجميع إلى السعي من أجل تموضعات جديدة إقليمياً ودولياً، ما دام الرئيس بايدن جاداً في حديثه عن العودة إلى الاتفاق النووي الإيراني المدعوم أوروبياً.
كما سيكون في "آخر عمره" جاداً وحازماً في تعاملاته مع الجميع على أساس احترام أسس ومبادئ الديموقراطية وحقوق الإنسان وحرية التعبير التي فشل معلمه السابق أوباما في تحقيقها في "الربيع العربي" الأول، فعسى أن يحمينا الله جميعاً من الربيع الثاني مع استمرار العداء الأميركي التقليدي لروسيا!
ويبقى الرهان على إمكانيات القيادة السورية، وربما لآخر مرة، في فهم كل هذه المعطيات بكل مضامينها السرية والعلنية، والاستعداد لها مسبقاً مع الحلفاء، وبعقلية جديدة، ولكن هذه المرة بصفر أخطاء تساعد سوريا على التخلص من جميع مشاكلها التي عانى منها الشعب بكل فئاته، والأسباب باتت معروفة للجميع!