كيف تقاطعت المصالح الدولية ضد أرمينيا في ناغورنو كاراباخ؟

ربما تدخلت أميركا من خلال تركيا لأن مصالح الأخيرة غير بعيدة من مصالح واشنطن، والتي تتمثل بدعم أذربيجان، والضغط في جنوب القوقاز على روسيا، وخلق مشكلة أمنية على حدود إيران.

  • كانت تركيا عرّاب استعادة أذربيحان لإقليم ناغورنو كاراباخ
    كانت تركيا عرّاب استعادة أذربيحان لإقليم ناغورنو كاراباخ

عند بداية المواجهة العسكرية بين أذربيجان وإقليم ناغورنو كاراباخ، ظنَّ الجميع أنَّ الموضوع لن يكون مختلفاً عن حوادث الاشتباك السابقة بين الطرفين، بحيث تنحصر المواجهة بتغيير بسيط في مواقع السيطرة أو بسقوط بعض الإصابات، وفي النهاية، تهدأ الأمور ويتموضع كل طرف في مربّعه المسموح له. 

لم يعتقد أحد من المتابعين بأنَّ المواجهة سوف تؤدي إلى إعادة سيطرة أذربيجان على الإقليم، وخصوصاً - بحسب نظرة هؤلاء المتابعين - أنَّ روسيا لن تقبل بذلك، وسوف تضغط لعدم حصول أي تغيير ميداني بعكس مصالحها التي كانت مؤمنة من خلال النفوذ الأرميني في الإقليم.

صحيح أن ما حصل عملياً من سيطرة آذرية على القسم الأكبر من الإقليم، كان بسبب الدعم التركي الواسع سياسياً وعسكرياً، وبسبب الدعم الإسرائيلي العسكري عبر تزويد باكو بطائرات مسيّرة فعالة، والدعم المخابراتي عبر مدّها بمعلومات استخبارية وجوية. 

وصحيح أيضاً أن أرمينيا فشلت في إدارة معركة الدفاع عن ناغورنو كاراباخ عسكرياً، إذ لم تكن جاهزة لهذه المعركة التي كانت منتظرة، وكذلك دبلوماسياً، إذ ترددت في طلب الدعم، وبدت محتارة بين الطلب من روسيا أو الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة الأميركية، فخرجت من دون دعم حقيقي من أي من هؤلاء جميعاً.

لكن إضافةً إلى الأسباب المذكورة أعلاه، كان هناك سبب آخر أساسي، تمثل بغضّ نظر روسي واضح عن عملية أذربيجان الهجومية على الإقليم. وقد ذهب البعض أبعد من ذلك، ليعتبره غير بعيد من التواطؤ، وخصوصاً أن تحرك موسكو الجدي إزاء الهجوم ظهر في نهاية المعركة تقريباً، وذلك بعد انتهاء سيطرة الوحدات الآذرية على كامل جنوب الإقليم، وبعد الوصول إلى وسطه والسيطرة على المدينة الثانية (شوتشي) والضغط على العاصمة ستيباناكيرت، ومباشرة بعد الاقتراب من الأراضي الأرمينية التي تفصل إقليم ناختشيفان عن أذربيجان، إذ اعتبر الروس حينها أنّ معاهدة الأمن والدفاع المشتركة مع أرمينيا تلزمهم بالتدخل العسكري ضد الوحدات الآذرية، وجاء تصريح الرئيس بوتين شخصياً حول ذلك تتويجاً للتدخل الروسي المُتأخر كثيراً.

في الواقع، إن عرّاب استعادة أذربيحان للإقليم كان تركيا. وقد استندت في كامل تحركاتها الدبلوماسية إلى القانون الدولي الذي يشرّع استعادة أذربيجان للإقليم الذي خسرته في العام 1993، على الرغم من موقف الأمم المتحدة ومجلس الأمن الواضح حينها ضد انتزاع الإقليم من أذربيجان. وكانت ترجمة هذا الموقف الأممي حينها في عدم اعتراف أي دولة بسيادة الإقليم واستقلاله عن أذربيجان، حتى إنَّ أرمينيا أيضاً لم تعترف بذلك.

الموقف الروسي الأخير أيضاً، والمُسهّل لأذربيجان في إعادة سيطرتها على الإقليم، استند إلى القانون الدولي وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة بملف إقليم ناغورنو كاراباخ، وكان واضحاً تمييزه بين هجوم أذربيجان على الإقليم وهجومها (لو حصل) على الأراضي الأرمينية.

لم تأخذ إيران أيضاً موقفاً مخالفاً للقانون الدولي في مقاربتها للملف منذ البداية في العام 1993، ولاحقاً عند جميع المواجهات العسكرية بين باكو والإقليم، وأخيراً مع الهجوم الآذري، وكانت دائماً في تصريحاتها حول الملف تؤكّد ضرورة الابتعاد عن الحل العسكري، والتفاوض للتوصل إلى تسوية سياسية، مع توجه إيراني كان واضحاً، ولم تخفه طهران، بضرورة عودة أراضي الإقليم لأذربيجان، استناداً إلى الشرعية الدولية.

الاتحاد الأوروبي، وخصوصاً فرنسا واليونان والدول الساحلية على المتوسط، بقيت حذرة أيضاً من دعم أرمينيا سياسياً في معركتها لمساندة أبناء الإقليم، ولم تحاول أبداً أي من دول الاتحاد التدخل عسكرياً، لأن عينها على شرق المتوسط والخلاف البحري التركي مع اليونان وقبرص، وذلك خوفاً من استغلال أنقرة للموضوع وفتح ملف ملكية الجزر على سواحلها الجنوبية أو إعادة فتح ملف توزيع الحدود البحرية والمياه الاقتصادية الخالصة في شرق المتوسط، إذا حاولت الدول الأوروبية اتخاذ موقف مغاير لحقوق أذربيجان المشروعة في الإقليم.

بدت واشنطن غائبة عن الملف، وعلى الأقل لم تتدخل مباشرة. ربما تدخلت فقط من خلال تركيا، لأن مصالح الأخيرة في الملف غير بعيدة من مصالح واشنطن، والتي تتمثل بدعم أذربيجان، والضغط في جنوب القوقاز على روسيا، وخلق مشكلة أمنية على حدود إيران، من خلال نشر عدد كبير من المسلحين المتشددين المعادين لطهران. صحيح أن واشنطن و"إسرائيل" تجاهران في ذلك علناً (أي في تبني ودعم وضع مؤذٍ لإيران)، ولكن تركيا عملياً لن تكون مستاءة في حال وجود ورقة ضغط بيدها (المسلحين المتشددين) قادرة على أن تتحكم أو تناور بها ساعة تريد، بهدف استغلالها في كل من سوريا أو العراق لابتزاز طهران.

كل هذا التداخل في مصالح الدول المذكورة وارتباطها ببعضها البعض، خلق حالة من الرضا أو السكوت عند أغلب هذه الدول المعنية بملف ناغورنو كاراباخ أو بملف الصراع الأرميني - الآذري، سمحت لباكو باستعادة جزء أساسي من الإقليم، مع استعادتها أغلب المناطق الآذرية التي كانت تحت سيطرة أرمينيا .

إلى موعد آخر مع ملف شبيه بملف ناغورنو كاراباخ، ولكن ربما قد يشهد موقفاً دولياً معاكساً لما اتخذته تلك الدول النافذة، وذلك فقط لأن مصالحها سوف تكون في الجهة المقابلة.