بعد كاراباخ.. هل يتابع إردوغان تقدّمه في قبرص؟
إردوغان بزيارته إلى فاروشا وإطلاق تهديداته منها، أثبت من جديد أنه لن يبالي بردود الفعل والمواقف الإقليمية والدولية، ما دام يعتقد أن الظروف الإقليمية والدولية لصالحه.
بعد مرور أيام قليلة على الانتصار الّذي حققته أذربيجان بفضل الدعم التركي، أطلق الرئيس التركي رجب طيب إردوغان هذه المرة تهديداته من شواطئ بلدة فاروشا السياحية شرق قبرص، ليقول لأوروبا وللرئيس الأميركي المنتخب "إنه والقبارصة الأتراك نفد صبرهم من الألاعيب والمماطلات الدبلوماسية التي يمارسها القبارصة اليونانيون، كما سبق أن نفد صبرهم في كاراباخ التي حررتها أذربيجان خلال 44 يوماً".
بلدة فاروشا السياحية الجميلة التي تقع في أقصى الشرق، والتي كانت منطقة شبه عسكرية مغلقة منذ التدخل العسكري التركي في تموز/يوليو 1974، اختارها إردوغان ليرسل منها رسائله إلى الغرب، مهدداً بضمّها إلى جمهورية شمال قبرص التركية بالكامل. ولم يهمل التذكير بالمساعي الدولية والأميركية والأوروبية الهادفة إلى توحيد شطري الجزيرة في دولة فيدرالية مشتركة ذات كيانين مستقلين تماماً في الأمور الداخلية، فقد سيطر الأتراك على 36% من الجزيرة، وأقاموا فيها جمهوريتهم في 15 تشرين الثاني/نوفمبر 1983، والتي لا يعترف بها أحد سوى تركيا، فقد فشلت أنقرة في إقناع حتى أذربيجان وجمهوريات آسيا الوسطى الإسلامية ذات الأصل التركي بالاعتراف بهذه الجمهورية، وهو ما يمنعه القرار رقم 550 الصادر عن مجلس الأمن الدولي.
الرئيس إردوغان هدد في خطابه "بتنفيذ خطوات عملية جديدة على طريق ضمان حقوق القبارصة الأتراك"، وقال: "على الجميع أن يعرفوا ويعترفوا بوجود شعبين منفصلين في قبرص، وأن الحديث عن توحيد الجزيرة من جديد كدولة كونفدرالية لن يتحقق إلا بضمان حقوق القبارصة الأتراك ككيان مستقل متساوٍ في كل الحقوق والواجبات، بما في ذلك السيادة السياسية المتساوية مع القبارصة اليونانيين"، الذين يمثلون جمهورية قبرص المعترف بها دولياً والعضو في الاتحاد الأوروبي.
زيارة إردوغان إلى الجزيرة وتهديداته منها للجميع جاءت بعد يومين من زيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى أثينا. وقد عقد الشهر الماضي في نيقوسيا قمة ثلاثية مع الرئيس القبرصي أناستاسيادس ورئيس الوزراء اليوناني ميتسوتاكيس، تم خلالها بحث تفاصيل التعاون السياسي والعسكري والاقتصادي بين الدول الثلاث، إذ سبق للقاهرة أن وقعت في 6 آب/أغسطس الماضي على اتفاقية لترسيم الحدود البحرية في ما بينها، رداً على الاتفاقية المماثلة التي وقعتها أنقرة مع حكومة السراج الليبية، وكانت سبباً لمجمل التوترات الأخيرة في المنطقة.
وقد فرض الاتحاد الأوروبي حزمة من العقوبات الاقتصادية والمالية والسياسية على تركيا، متهماً إياها بالقيام بأعمال استفزازية في جوار قبرص، من خلال إرسال سفن البحث والتنقيب عن الغاز في المنطقة. وقال إردوغان: "هذه السفن ستستمرّ في مهمتها" بحماية قطع الأسطول الحربي والطائرات المسيرة تحسّباً لأي مواجهات ساخنة في المنطقة، وهو الاحتمال الذي تسعى أثينا ونيقوسيا معاً لمواجهته، عبر الحصول على دعم الاتحاد الأوروبي وفرنسا بالتحديد، إضافة إلى الدعم الأميركي والإسرائيلي، إذ وقّعت تل أبيب على العديد من اتفاقيات التعاون، كتلك التي وقعتها القاهرة مع أثينا ونيقوسيا.
الرئيس إردوغان بزيارته إلى فاروشا وإطلاق تهديداته منها، أثبت من جديد أنه لن يبالي بردود الفعل والمواقف الإقليمية والدولية، ما دام يعتقد أن الظروف الإقليمية والدولية لصالحه، كما يعتقد أنه يحقق المزيد من المكاسب بعد كل توتر، كما هو الحال في العراق وسوريا وليبيا، وأخيراً كاراباخ.
وسيجعل كل ذلك منه زعيماً قومياً بالنسبة إلى كل الأتراك داخل تركيا وخارجها، باعتبار أن هذه القضايا قومية، ولا يمكن لأيّ مواطن تركي أن يعترض على سياساته فيها، وإلا سوف يتم إعلانه خائناً وعميلاً. ويفسر ذلك أحاديث الأوساط القومية عن ضم شمال قبرص إلى تركيا، لتكون الولاية رقم 82، كما كانت هذه الأوساط تدعو في العام 2015 لضمّ حلب، ولاحقاً إدلب، إلى تركيا، لينافس الرئيس إردوغان بمثل هذه النجاحات كلاً من مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك الذي تم في عهده ضم لواء الإسكندرون إلى تركيا في حزيران/يونيو 1939، ومن ثم رئيس الوزراء بولنت أجاويد وشريكه في الائتلاف نجم الدين أربكان، وهما اللذان اتخذا قرار التدخل العسكري في قبرص في 20 تموز/يوليو 1974.
وستجعل مثل هذه الانتصارات - كما فعلت - من إردوغان "زعيماً إسلامياً لكل الإسلاميين في العالم، ما دام البطل المسلم الوحيد الذي يتحدّى الغرب المسيحي"، أي أوروبا وأميركا ومن معها، و"الشرق الكافر"، أي روسيا وحلفاءها، فيما تحمل أوساط أخرى تحركات الرئيس إردوغان في قبرص رسائل استباقية منه للرئيس الأميركي الجديد جو بايدن، الذي يعرف عنه تضامنه مع القبارصة الأتراك، وهو الحال مع الرئيس ترامب الذي سيزور وزيره بومبيو إسطنبول هذا الأسبوع، ليلتقي بطريرك كنيسة فنار الأرثوذوكسية؛ العاصمة الروحانية لكل الأرثودوكس في العالم.
واعتبر المراقبون هذه الزيارة، بعد أن رفض دعوة من نظيره جاويش أوغلو لزيارة أنقرة وقال له: "تعال نلتقِ في إسطنبول"، بمثابة الرد الأميركي الواضح والعملي على قرار إردوغان بتحويل متحف آيا صوفيا إلى جامع في 24 تموز/يوليو الماضي، وهو ما استنكرته آنذاك العواصم الغربية جميعاً، باعتبار أن آيا صوفيا كانت الكنيسة الأم للإمبراطورية البيزنطينية وعاصمتها القسطنطينية التي فتحها السلطان محمد الفاتح في العام 1453.
ويفسّر كلّ ذلك عدم إهمال الرئيس إردوغان الجوانب العقائدية والنفسية في مجمل تحركاته الخاصّة بقبرص، بعد أن استنفر كل إمكانيات الدولة التركية لضمان فوز مرشحه أرسين تتار في انتخابات الرئاسة الأخيرة في جمهورية شمال قبرص التركية ضد منافسه الرئيس السابق مصطفى أكينجي. وكان أكينجي يقف ضد التدخّل التركي المباشر والسافر في الجزيرة، وحظي بدعم 48% من القبارصة الأتراك، وعددهم حوالى 350 ألفاً، منهم 120 ألفاً من سكان قبرص الأصليين، والباقي جاء إلى الجزيرة من تركيا بعد العام 1974.
ويسعى إردوغان منذ فترة، وعبر أتباعه هناك، إلى أسلمة المجتمع القبرصي العلماني، بعد أن فرض على الحكومات فيها بناء الجوامع والمدارس الدينية، ما دامت أنقرة تغطي جميع الاحتياجات المالية لجمهورية شمال قبرص التركية، ويتواجد على أراضيها حوالى 20 ألف عسكري تركي.
إذاً، القضية ليست قضية غاز وبترول شرق الأبيض المتوسط بقدر ما هي أيضاً قضية نفسية بالنسبة إلى إردوغان في المسارين الداخلي والخارجي، فهو يسعى إلى تحقيق انتصار قومي جديد يستفيد منه في حملاته الانتخابية داخلياً، بعد أن أثبت للجميع أنه يستطيع أن يتحدى العالم، ولا يستطيع أحد أن يمنعه أو يعرقل انتصاراته القومية. كما أثبت بعد ما يسمى بـ"الربيع العربي" أنه مستعد لدفع الثمن من أجل هذه الانتصارات، وهو ما فعله في سوريا والعراق وليبيا وأذربيجان والصومال، وقريباً في قبرص، ولاحقاً في أماكن أخرى.
يبقى الرهان على الموقف المحتمل لواشنطن والعواصم الأوروبية التي فشلت أو لم تستطع أن تتخذ موقفاً عملياً مشتركاً وفعالاً ضد سياسات الرئيس إردوغان، والكل يقول عنه الأمر نفسه، ولكن من دون أن يفكر أحدهم في القيام بشيء ما ضده، باستثناء التصريحات النارية، وكأن رصاصها أيضاً مطاطي، وهو ما استغله الرئيس إردوغان، فاستمر في تحركاته الخارجية بشعارات قومية لا يمكن لأحد أن يعترض عليها في الداخل، ما دام يدافع عن الأتراك في قبرص وأذربيجان، والتركمان في سوريا والعراق، وكل المسلمين ذوي الأصل التركي من بقايا الحكم العثماني في ليبيا والبلقان والقرم، ولاحقاً في أي بقعة من الكرة الأرضية، وهو ما يدغدغ المشاعر والعواطف القومية والدينية في الشارع الشعبي المؤيد له، ما دام يتغنى بذكريات الخلافة والسلطنة العثمانية، ليكون المستفيد الوحيد، إن لم نقل مادياً (باستثناء الدعم القطري)، بل سياسياً وعقائدياً ونفسياً، وعلى المدى البعيد استراتيجياً أيضاً، بالنسبة إلى الدولة التركية، هذا بالطبع إن صحَّت حساباته!