انتخابات قبرص التركية.. هل يرضى إردوغان بالهزيمة؟
يرى إردوغان في قبرص نقطة انطلاق استراتيجية لمجمل سياساته الإقليمية، ليس بسبب الغاز والبترول فحسب، بل لأن الجزيرة قريبة من سوريا ولبنان والأراضي المحتلة وفلسطين ومصر واليونان وليبيا والقواعد الروسية في سوريا، ولكل ذلك مكان ما في مخططاته.
خلافاً لانتخابات الرئاسة السابقة، وعددها 4 انتخابات منذ الإعلان عن قيام جمهورية شمال قبرص التركية، حظيت انتخابات يوم الأحد (11 تشرين الأول/أكتوبر) باهتمام واسع، ليس في تركيا فحسب، بل في كل الدول التي تعتبر نفسها طرفاً في المشكلة القبرصية، فقد تدخَّلت أنقرة ووسائل الإعلام الموالية للرئيس رجب طيب إردوغان بكل ثقلها في هذه الانتخابات التي تنافس فيها 11 مرشحاً، وأهمهم الرئيس الحالي مصطفى أكينجي ورئيس الوزراء أرسين تتار، وهو زعيم حزب الوحدة الوطنية اليميني التقليدي.
وشنَّ الإعلام الموالي لإردوغان هجوماً عنيفاً على أكينجي، واتهمه بخيانة قضية الشعب القبرص التركي والأمة التركية، وتجاوز ذلك إلى اتهامه بالعمالة للقبارصة اليونانيين واليونان وبريطانيا، وأحيانا فرنسا وأميركا.
وكان الخلاف قد انفجر بين أكينجي والرئيس إردوغان عندما اعترض الأول في 13 تشرين الأول/أكتوبر العام الماضي على التدخل العسكري التركي شرق الفرات، قائلاً: "حتى لو كان اسم العملية ينابيع السلام، فهي حرب، كما كان التدخل التركي في قبرص في العام 1974 حرباً، والدماء التي سالت لم تكن ماءً". وتعرّض أكينجي آنذاك لهجوم عنيف من الرئيس إردوغان ومعظم المسؤولين الأتراك والإعلام الموالي لهم، بعد أن رفض التراجع عن موقفه المتضامن مع الكرد.
وقد جاءت تصريحات أكينجي لصحيفة "الغارديان" اللندنية في 8 شباط/فبراير الماضي لتزيد الطين بلة في العلاقة بينه وبين أنقرة، إذ اتهم تركيا "بالتدخل السافر في شؤون القبارصة الأتراك"، وقال: "ما نريده هو أن تكون علاقاتنا مع أنقرة متساوية وذات استقلالية، ولن أقبل لنفسي بأن أكون تايفور سوكمان ثانياً"،ك الرجل الذي قرر ضم لواء إسكندرون إلى تركيا بعد استفتاء شعبي نظمته فرنسا التي كانت تستعمر سوريا آنذاك.
وقد أثار تصريحه ردود فعل واسعة في أنقرة التي شنّت حملة عنيفة جداً عليه، واستنفرت كلّ إمكانياتها لسدّ الطريق على انتخابه من جديد. ولم تكتفِ بذلك، فبعثت رسائل تهديدية إليه، لمنعه من ترشيح نفسه، وهو ما أعلن عنه بنفسه.
وقد أعلنت أنقرة عن تأييدها للمرشح المنافس له، إذ قرر الرئيس إردوغان الثلاثاء الماضي، ومعه أرسين تتار، السماح للقبارصة الأتراك بدخول المنطقة المنزوعة السلاح في مدينة ماراش، وذلك لدعم موقف تتار الذي يمثل التيار القومي من القبارصة الأتراك الذين يرفضون رفضاً باتاً العودة إلى ما قبل العام 1974، والعيش مع القبارصة اليونانيين في جمهورية مشتركة، في الوقت الذي يتَّهم اليساريون والاشتراكيون والمستقلون من القبارصة الأتراك تركيا بالتدخل المباشر في شؤونهم الداخلية، إذ لا تستطيع أي حكومة في الشمال القبرصي الاعتراض على أي موقف أو قرار تتخذه أنقرة في ما يتعلق بتقرير مصير الجزيرة.
وتدخّلت تركيا في قبرص في 20 تموز/يوليو 1974، بحجة أن القبارصة الأتراك في خطر بعد الانقلاب الذي قام به ضابط قبرصي يوناني قومي عنصري ضد الرئيس مكاريوس. وسيطر الجيش التركي على 36% من الجزيرة، في ما فشلت جميع المحاولات الأوروبية والأميركية والدولية في حل المشكلة القبرصية وتوحيد شطري الجزيرة في جمهورية فيدرالية مشتركة يتقاسم فيها القبارصة الأتراك واليونانيون السلطة بالتساوي، على الرغم من أن عدد القبارصة اليونانيين ضعف القبارصة الأتراك، وهم جميعاً أقل من مليون.
لقد جاء إلى الجزيرة بعد العام 1974 حوالى 200 ألف من المواطنين الأتراك وسكنوا فيها، في الوقت الذي فشلت أنقرة في جميع محاولاتها ومساعيها لإقناع الدول الإسلامية بالاعتراف بجمهورية شمال قبرص التركية التي لا تعترف بها سوى تركيا، ولها هناك 15 ألف عسكري، في الوقت الذي تمنع قرارات مجلس الأمن الدولي والاتحاد الأوروبي دول العالم من الاعتراف بجمهورية قبرص التركية، وتطالب أنقرة بسحب قواتها كشرط أساسي للاستمرار في مباحثات العضوية مع الاتحاد الذي فتح أبوابه للقبارصة اليونانيين، وأصبحوا في أيار/مايو 2004 أعضاء في الاتحاد باسم جمهورية قبرص المعترف بها دولياً، من دون أن يعترض القبارصة الأتراك واليونانيون على قاعدتي "أغراتور" و"ديكيليا" البريطانيتين الموجودتين في الجزيرة، وهي مهمة جداً بالنسبة إلى الحسابات البريطانية والأميركية والأطلسية الخاصة بالشرق الأوسط، وبشكل خاص سوريا ولبنان و"إسرائيل". ولا نتجاهل الاهتمام الذي توليه تل أبيب للجزيرة، إذ ترى فيها بوابتها الوحيدة للخروج أو الهروب من فلسطين، ولو بعد ألف سنة.
وقد أولى اليهود عبر مراحل التاريخ المختلفة اهتماماً كبيراً بقبرص لقربها من فلسطين، وطلبوا من السلطان سليمان القانوني في العام 1510-1520 بأن يعطيهم إياها، ليقيموا فيها دولتهم اليهودية. وتتحدّث المعلومات عن نشاط مكثَّف للموساد ورجال الأعمال اليهود في شطري الجزيرة، كما بنت شركة يهودية ميناءً أسمته البوابة (Gate) قرب مدينة كارباس القبرصية التركية.
وبالعودة إلى الانتخابات، فقد توقّعت النتائج منافسة عنيفة وشرسة في الجولة الثانية الأحد القادم (18 تشرين الأول/أكتوبر) بين الرئيس الحالي أكينجي الذي حصل في الجولة الأولى على (29.8%)، ورئيس الوزراء أرسين تتار الذي حصل على (32.3%)، وذلك مقابل 21.7% لليساري توفان أرهورمان الذي أعلن تأييده لأكينجي، ومعه قودرات أوزارساي (حصل على 5.7%)، وهو ما يتوقعه الجميع، فالهزيمة ستكون من نصيب تتار، أي الرئيس إردوغان.
وسيدفع مثل هذا الاحتمال أنقرة إلى استنفار كل إمكانيات الدولة التركية المادية والسياسية وغيرها لسد الطريق على أكينجي، لأن فوزه سيعني هزيمة إردوغان الذي يرى نفسه صاحب القول الوحيد في كل صغيرة وكبيرة في قبرص، فقد اعترفت اتفاقية لندن للعام 1960 لتركيا واليونان وبريطانيا بحق التدخل في الجزيرة، كدول ضامنة لاستقلالها وأمنها.
وتحجَّجت أنقرة بهذه الاتفاقية، فتدخلت في الجزيرة في العام 1974، وهي التي تتحكَّم منذ ذلك التاريخ بمصير القبارصة الأتراك، حتى لو انتخبوا الأحزاب اليسارية، فأنقرة تغطي جميع احتياجات الشطر الشمالي التركي، الذي ليس له علاقة اقتصادية أو تجارية أو سياحية مع أي دولة في العالم سوى تركيا، التي تفرض رأيها على القبارصة الأتراك، وتمنعهم من الاتفاق مع القبارصة اليونانيين لإعادة توحيد الجزيرة في إطار دولة فيدرالية مشتركة لا يتشجع لها أحياناً القبارصة اليونانيون أيضاً.
وأياً كانت نتيجة الجولة الثانية (بسبب تدخل أنقرة المحتمل)، فقد بات واضحاً أن ما لا يقل عن 55% من القبارصة الأتراك (أتباع أكينجي وأرهورمان وأحزاب يسارية أخرى) يقفون ضد نهج الرئيس إردوغان وتدخّله السافر في شؤون قبرص التركية. كما تتهم الأحزاب اليسارية والاشتراكية والليبرالية إردوغان بالعمل على أسلمة قبرص التركية، دولة وشعباً، بعد أن بنى فيها العشرات من الجوامع والمعاهد الدينية.
وقد أزعج ذلك القبارصة الأتراك الذين لم يعودوا يخفون قلقهم من هذا النهج، فبدأ الكثير منهم بالهجرة إلى بريطانيا مع استمرار الأزمة الاقتصادية والمالية، نتيجة الارتباط العضوي باقتصاد تركيا. ويتحدث القبارصة الأتراك عن مجيء الآلاف من المواطنين الأتراك إلى الجزيرة للعمل فيها، وهو ما سيخلّ بالتركيبة السكانية لصالح تركيا التي تمنع القمار داخل أراضيها، إلا أنها لا تعترض على نشاط حوالى 40 من دور القمار في الشطر الشمالي من الجزيرة التي يحكمها سفير تركيا وقائد القوات التركية، والكلام هنا للمعارضة القبرصية.
وتعتبر هذه المعارضة نسبة المشاركة المتدنية في انتخابات الأحد (58.2% من أصل 198 ألف ناخب) إثباتاً آخر على رفض القبارصة الأتراك تدخل إردوغان في شؤونهم الداخلية، بعد سئموا من هذه التدخلات، وأفقدتهم الأمل في مستقبل الجزيرة.
وجاءت نتيجة الاستفتاء على التعديل الدستوري بمثابة الضربة الثانية لمخطّطات الرئيس إردوغان، الذي اتهمته المعارضة بالعمل للسيطرة على الجهاز القضائي في الشطر الشمالي من الجزيرة، وهو ما رفضه القبارصة الأتراك، ولو بفارق بسيط.
ولم تمنع نتائج الانتخابات الرئيس التركي من الاستمرار في سياساته الخاصة بقبرص، حتى لو كان نصف سكانها ضده شخصياً وضد سياسات أنقرة منذ 46 عاماً لم تكن كافية لحل المشكلة القبرصية. ويبدو واضحاً الآن أنها دخلت في مرحلة جديدة مع تهديدات إردوغان للقبارصة اليونانيين في ما يتعلق بالغاز والبترول الموجود حول الجزيرة.
ويقول إردوغان إنه، وباسم القبارصة الأتراك، لن يعترف بحدود الجرف القاري والمنطقة الاقتصادية الخالصة التي أعلنها القبارصة اليونانيون، وسيستمر في البحث والتنقيب عن الغاز حول الجزيرة، مهما كانت حجم التهديدات الأوروبية والأميركية له ولتركيا، وهو يرى في قبرص نقطة انطلاق استراتيجية لمجمل سياساته الإقليمية، ليس بسبب الغاز والبترول فحسب، بل لأن الجزيرة قريبة أيضاً من سوريا ولبنان والأراضي المحتلة وفلسطين ومصر واليونان وليبيا والقواعد الروسية في سوريا، ولكل ذلك مكان ما في مخططاته التكتيكية والاستراتيجية، ولو كانت على حساب معظم القبارصة الأتراك، ولو هزموا إردوغان معاً في انتخابات الأحد!