أين المصالح السورية في الصراع التركي - الأوروبي شرق المتوسط؟
تركيا الساعية إلى بعث السلطنة تنقض حدود جمهورية أتاتورك الناتجة من معاهدة هزيمتها مع أوروبا، لكن أوروبا تقع أسيرة تفريطها بمصالح سوريا في لواء الإسكندرون وعدم التفاوض معها حالياً في المتوسط.
التوتر المتصاعد بين أوروبا وتركيا في شرق المتوسط يتداخل مع مصالح مصر وروسيا وأميركا في الصراع الإقليمي والدولي على ثروات النفط والغاز التي يعوم فوقها شرق المتوسط، لكن الدول المتصارعة تضمن مطامع "إسرائيل" التي تحاول الاستيلاء على حقوق لبنان، وتتجنّب في الوقت نفسه التفاوض مع سوريا على حقوقها في ثروات شرق المتوسط. وبهذا المعنى، تتوافق أوروبا وتركيا على التفريط في الحقوق السورية الحالية، وتحصد أوروبا وفرنسا على وجه خاص نتائج تقديم لواء الإسكندرون إلى تركيا، والذي يطوّق قبرص والجزر اليونانية.
عقدة الأزمة التي تفجّر تناقض المصالح بين تركيا وأوروبا في بحر إيجة، هي الخلاف على حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة لكل من اليونان وقبرص وتركيا في المتوسط. والخلاف بالتحديد هو إذا كانت الجزر اليونانية الصغيرة الاثنتي عشرة، ولا سيما جزيرة ليسبوس التي تبعد 2 كلم عن حدود أنطاليا، هي حدود اليابسة اليونانية أم أنها هامشية مقابل اليابسة التركية في أنطاليا ولواء الإسكندرون. وبين الحالتين، ينقلب الجرف القاري في تحديد المناطق الاقتصادية البحرية من حال إلى حال.
قانون البحار الدولي غير قابل للتطبيق التلقائي في حالة تركيا واليونان وقبرص، فهو عبارة عن مجموعة اتفاقيات تمخّضت عنها اتفاقية الأمم المتحدة في 16 تشرين الثاني/نوفمبر 1973، التي حدّدت بعض المعايير العمومية، وعينت محكمة خاصة للفصل في النزاعات (محكمة البحار هي المحكمة المختصة، وليست محكمة العدل الدولية)، ولم توقع تركيا على اتفاقية "مونتيغو باي" (جمايكا) في العام 1982 نتيجة فشل المباحثات التركية ــ اليونانية منذ العام 1975. فضلاً عن ذلك، لم توقّع على اتفاقية الأمم المتحدة التي دخلت حيّز التنفيذ في العام 1994 أكثر من 60 دولة، بعضها لم يصادق على التوقيع، كالولايات المتحدة الأميركية وغيرها.
لكن التوتّر المتصاعد بين تركيا ومنافسيها الأوروبيين في بحر إيجة ليس خلافاً قانونياً ولا أزمة عابرة، فهو نتيجة هزيمة السلطنة العثمانية التي أدّت إلى تفكيكها ورسم حدود جمهورية أتاتورك في معاهدة لوزان 1923 بعد تعديل معاهدة "سيفر" في العام 1920، وضم طرسوس وأنطاكية ومرسين وأنطاليا والأناضول الأوروبي... إلى تركيا. وفي المقابل، أقرّت جمهورية أتاتورك تسوية الحدود مع اليونان وقبرص، وفكّت الارتباط عبر تبادل السكان والأملاك بين الجانبين التركي واليوناني.
الخلاف على المنطقة الاقتصادية الخالصة مع اليونان ليس وحده بؤرة التوتّر، فهو يمتد إلى جزيرة قبرص، وخصوصاً مع انضمام قبرص التركية إلى طموحات أنقرة، فالمناطق التي ضمّتها معاهدة لوزان إلى تركيا تطوّق قبرص والجزر اليونانية. فوق ذلك، منحت فرنسا تركيا لواء الإسكندرون بعد لوزان في العام 1939، في سياق تقسيم المنطقة العربية، واحتلال فلسطين، والتعاون مع جمهورية أتاتورك المتوجّهة غرباً نحو الأطلسي.
وبينما تتمسّك أوروبا بنتائج إرث معاهدة لوزان التي تنتهي صلاحيتها في العام 2023، يسعى إردوغان إلى تمدّد النفوذ والمصالح التركية في مناطق السلطنة العثمانية قبل حدود الجمهورية. وفي هذا الإطار، يرى في العام 2023 "سنة التحوّل التنموي والسياسي لتركيا" في العودة إلى بحر إيجة والبحر الأسود، والتمدّد في الأراضي العراقية والسورية وشمال أفريقيا عبر ليبيا، وفي التنقيب عن النفط والغاز في المتوسط والأسود، حيث حرمته المعاهدة من التنقيب، وهو يقضم بذلك حقوق سوريا وليبيا في المتوسط، ويصطدم مع أوروبا، ولا سيما فرنسا، في الصراع الجيوستراتيجي على الثروات والنفوذ، كما يصطدم بمصالح اليونان وقبرص، ويتضارب مع مصالح مصر ونفوذ روسيا.
فرنسا التي شكّلت رأس حربة مع "التحالف الدولي" والدول الخليجية والجامعة العربية لتدمير ليبيا وتفتيتها من أجل الاستحواذ على الثروات والتغلغل في شمال أفريقيا وجنوب الصحراء، خسرت مواقعها في معركة غرب ليبيا، وخسرت نفوذها في معركة طرابلس التي حملت تركيا على طبق من ذهب لبسط سيطرتها على الغرب الليبي وعلى جنوب شرق المتوسط، عبر الاتفاقيات الاستراتيجية مع حكومة "المرحلة الانتقالية" التي يرأساها فايز السرّاج. وفي هذا الإطار، لم ترمِ فرنسا سلاحها، ولا تزال تأمل بنصيبها من الكعكة الليبية عبر "مؤتمر برلين" المدعوم من الإدارة الأميركية، لمواجهة نفوذ روسيا ومواقعها في الجفرة وسرت والشرق الليبي. ولا تبدو تركيا قابلة لحسم سيطرتها الكاملة على ليبيا ومنطقتها الاقتصادية في صراعها مع الأطراف الدولية والخليجية، بينما تتشقّق قوى "المرحلة الانتقالية" في شرق ليبيا وغربها على السواء، وتتحكّم الميليشيات المسلّحة برقاب الليبيين، لكن تركيا حسمت وجودها في الصراع المفتوح على مصراعيه.
في الحرب على سوريا من أجل تفتيتها وتغيير موقعها الاستراتيجي في الصراع الإقليمي والدولي في مواجهة "إسرائيل"، لم يبقَ من وجود "التحالف الدولي" سوى القوات الأميركية في شرق الفرات وما يسمى "الشرعية الدولية" في مؤتمر جنيف، فتركيا إردوغان الطامحة إلى حدود السلطنة تنقض ترسيم الحدود مع سوريا، الذي أدّى بفرنسا إلى تسليم تركيا مرسين وطرسوس وأضنة وحرّان وديار بكر وماردين وجزيرة عمر.... في معاهدة لوزان، وهي تدخل في الحرب على سوريا بمطامع عالية السقف، أملاً باقتطاع ريف حلب ومحافظة إدلب، والسيطرة على ثروات المتوسّط في محافظة اللاذقية، وفق تمدّد الجرف القاري، امتداداً إلى لواء الإسكندرون وما تزعمه في حدود المنطقة الاقتصادية مع قبرص. وفي هذا الشأن، تساهم فرنسا وأوروبا في تمكين تركيا من فرض الأمر الواقع، في رفضها التفاوض مع سوريا بشأن المنطقة الاقتصادية بين سوريا وقبرص.
الصراع بين تركيا وأوروبا في بحر إيجة وشرق المتوسط تحدّد سقفه أميركا في منعه من نشوب حرب ساخنة بين حليفي الأطلسي، فواشنطن تمسك العصا من النصف في توطيد علاقتها مع تركيا من أجل مناهضة روسيا، وفي تثبيت وجودها العسكري في قبرص واليونان، من أجل لجم جموح تركيا ومسح الفراغ الذي يمكن أن تحتله روسيا أو الصين، لكن أميركا لا تمنع الصراع البارد والتوتّر تحت أُطر العقوبات الأوروبية والمفاوضات من دون أُفق منظور.
وفق هذه القواعد، تسحب تركيا سفينة التنقيب "أوروج ريس" من بحر إيجة، لإتاحة مجال للمفاوضات الماراثونية المقبلة، لكنها تحتفظ بسفينتي "خير الدين بربروسا ويافوز" قبالة قبرص. وفي المقابل، تجمع واشنطن خبراء الطرفين والعسكريين في بروكسل، ويستعد المجلس الأوروبي للاتفاق على خريطة المواجهة في العقوبات، كما تلجأ مصر إلى منتدى المتوسط أملاً بحماية حقوقها. وبين أطراف الصراع، تتهدّد الحقوق العربية الليبية والسورية في المتوسّط، حتى تغلّبها على الحرب في تحرير أراضيها واستعادة تضامنها وتكاملها الإقليمي في ما بينها.