تسميم المعارض الروسي نافالني.. من المستفيد؟
هل يمكن أن تزيح السلطات الروسية بهذه الطريقة الفاضحة أحد معارضيها الناشطين؟ ألم تكن قادرة على إنهاء حياته بطريقة أخرى أو قبل أن يلمع نجمه عالمياً كمعارض شرس حاز دعم أكثر الحكومات الغربية؟
ينشغل الرأي العامّ العالمي حالياً، والأوروبي على نحو خاصّ، بقضية المعارض الروسي ألكسي نافالني، الذي كان قد دخل في نهاية شهر آب/ أغسطس 2020 إلى أحد المستشفيات الروسية في حالة حرجة إثر شكوك بتعرضه لتسميم، وبعد نقله إلى ألمانيا لتلقي العلاج، وخضوعه لفحوص طبية في مختبر تابع للجيش الألماني، أكدت حكومة برلين بنتيجة ذلك: "وجود دليل قاطع على أنه كان ضحية تسميم بـ غاز أعصاب من نوع نوفيتشوك"، وطالبت موسكو بتقديم توضيحات عاجلة عن القضية.
بدوره، أعلن سيرغي ناريشكين، مدير مصلحة الاستخبارات الخارجية الروسية، أن تصريحات المسؤولين الألمان غير مقبولة، حيث لا أساس لاتهام موسكو بتسميم نافالني مع استعدادنا للحوار حول الموضوع، ولم تستبعد الاستخبارات الخارجية الروسية وقوف أجهزة استخبارات غربية وراء القضية، فيما كشف الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو عن اعتراض استخبارات بلاده مكالمة هاتفية بين سلطات ألمانيا وبولندا، تؤكد أن مزاعم استخدام غاز نوفيتشوك مفبركة.
أدانت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل "جريمة تسميم نافالني"، مشيرة إلى أنها حصلت بهدف إسكاته، كما وقاد "نوربرت روتغن" رئيس لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الألماني (بوندستاغ) حملة متشددة، بهدف اتخاذ موقف أوروبي واضح وصارم وموحد ضد روسيا، مصوّباً على: "ضرورة مواجهة الواقع المهين للإنسان في ظل نظام حكم الرئيس فلاديمير بوتين"، ومستطرداً (روتغن) بشأن الموضوع بأن إتمام مشروع خط أنابيب الغاز "نورد ستريم 2"، سيكون بمثابة "القدر الأقصى من التأكيد والتشجيع" لبوتين على مواصلة هذه السياسة على وجه التحديد. وأضاف أن هناك لغة واحدة فقط يفهمها الرئيس الروسي، مشيراً إلى ضرورة عدم استكمال خط الأنابيب.
في الواقع، من الطبيعي أن يذهب الكثيرون، في أوروبا أو في خارجها، لاتهام السلطات الروسية بعملية تسميم المعارض نافالني، فالأخير قد يكون الأكثر جرأة من بين المعارضين الروس وعلى مدار التاريخ الحديث، الذي استطاع خلق حيثية جدية لمعارضة السلطات في موسكو، على خلفية اتهام الأخيرة بالفساد وبتزوير الانتخابات، ويحظى بقاعدة جماهيرية شابة، كما أنه اشتهر بخطابه غير المتهاون وعباراته المتهكمة مثل تسمية حزب روسيا المتحدة الحاكم باسم "حزب المحتالين واللصوص".
أيضاً، ما يزيد من الشكوك في إمكانية ضلوع الكرملين في عملية التسميم، أن تاريخ العلاقة بين السلطات الروسية ومعارضيها، وخاصة العملاء المزدوجين الذين كشفتهم، لم يكن تاريخاً هادئاً، وفي أكثر من واقعة، سقط فيها خصوم للكرملين ضحايا تسميم أو محاولات تسميم أو مرضوا فجأة، مع الإشارة الى أنه لم يثبت وفي أغلب تلك الحوادث، ضلوع السلطات الروسية في تلك العمليات، وبقيت اتهامات ذات طابع سياسي وغير مؤكدة قضائياً.
وقد تكون أهم تلك الحوادث وأكثرها إثارة للرأي العام الدولي، الحادثة الأخيرة التي تعرّض لها سيرغي سكريبال، وهو عميل مزدوج سابق روسي الجنسية، نقل أسراراً إلى الاستخبارات البريطانية، حيث عثر عليه مع ابنته فاقدي الوعي على أريكة أمام مركز تجاري بمدينة سالزبري بإنكلترا في مارس/ آذار عام 2018، وقال مسؤولون بريطانيون حينها إنهما سُمِّما باستخدام "نوفيتشوك"، وهو مجموعة من غازات الأعصاب طوّرها الجيش السوفياتي في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وقد نفت روسيا أيّ دور لها في تسميمهما، وقالت إن بريطانيا تثير حالة هوس مناهض لروسيا.
إذا اتّبعنا المسار العادي والطبيعي للحادثة، نتجه بتصويب الاتهامات نحو موسكو، ولكن ماذا لو ظهرت فرضية أخرى، تستبعد على نحو شبه كامل ضلوع الأخيرة في العملية، وتذهب باتجاه اتهام طرف آخر، لديه مصلحة في تسميم المعارض الروسي نافالني وبالتالي باتِّهام السلطات الروسية بالعملية؟؟
ننطلق من العبارة الأخيرة التي صرّح بها "نوربرت روتغن" رئيس لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الألماني (بوندستاغ)، والتي أشار فيها بالتحديد إلى ضرورة عدم استكمال خط أنابيب الغاز "نورد ستريم 2"، لعدم تشجيع بوتين على مواصلة سياسته الداخلية، وحيث أضاف روتغن أيضاً إلى أنه جرى تنفيذ خط أنابيب "نورد ستريم 2" ضد رغبة أغلب الدول الأوروبية.
بخصوص خط السيل الشمالي 2، كانت قد كشفت صحيفة "دي فيلت" الألمانية عن أن السلطات الأميركية تمارس سيلاً من الضغوط على الشركات الأوروبية لمنعها من المشاركة في المشروع، كما ونقلت الصحيفة عن مصادر مطلعة أن الجانب الأميركي عقد مؤتمرين بالفيديو مع مقاولين من ألمانيا ودول أوروبية أخرى يعملون على مد خط أنابيب الغاز المذكور، "حذَّرهم فيها من عواقب بعيدة المدى لمشاركتهم اللاحقة في المشروع". وحضر هذه المؤتمرات ممثلون عن وزارات الخارجية والخزانة والطاقة الأميركية، وفي هذا الإطار، كان قد وافق مجلس الشيوخ الأميركي على مشروع ميزانية الدفاع للسنة المالية 2021، وفيها عقوبات إضافية ضد مشروع "السيل الشمالي" (2).
من جهة اخرى، قد تكون بعيدة عن موضوع خط الغاز، إنما قريبة جداً في الجغرافيا وفي الأبعاد والأهداف، وعلى خلفية اندلاع احتجاجات عنيفة في بيلاروسيا عقب إعلان اللجنة المركزية للانتخابات وفق نتيجة أولية، فوز ألكسندر لوكاشينكو بولاية رئاسية جديدة (انتخب للمرة الخامسة منذ العام 1994)، نزل المتظاهرون إلى الشوارع بدعوى أن "الانتخابات مزوّرة"، وفيما توصل وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي إلى اتفاق بشأن احتمال فرض عقوبات على مسؤولين في بيلاروسيا، رافضين نتائج الانتخابات الرئاسية، توجهوا مباشرة إلى موسكو لعدم التدخل، وذلك عبر دعوة تحمل مضمون الاتهام لروسيا بتعديل مسار الانتخابات لمصلحة حليفها (لوكاشينكو).
مبدئياً، بالنسبة إلى الأميركيين الذين لديهم مصلحة واضحة في وقف خط الغاز الروسي نحو أوروبا، حيث يعملون لمد أوروبا بالغاز الأميركي الطبيعي، لن يكون سهلاً عليهم إكمال المشروع الروسي الألماني، ومن الطبيعي أن يفعلوا المستحيل لإيقافه وعرقلته، ولن يتوانوا وبشتى الطرق، عن العمل على زعزعة العلاقات الروسية الألمانية، والأصوات الألمانية التي علت مباشرة بعد حادثة تسميم نافالني بوقف المشروع ومعاقبة روسيا، تدخل في هذا الإطار.
كما أن فكرة انتزاع بيلاروسيا من حضن الروس، عبر إثارة التوتر بين موسكو وبرلين، لن تكون فكرة بعيدة عن استراتيجية واشنطن، حيث تمثّل بيلاروسيا حتى الآن، الحليفة الوحيدة لموسكو على الخط الفاصل بين معسكري المواجهة (الباردة – الحارة)، بين روسيا وحلف الناتو.
من جهة أخرى، هل يمكن القول إن السلطات الروسية وبكل بساطة، تذهب نحو قتل أو إزاحة أحد معارضيها الناشطين، بهذه الطريقة الفاضحة، في الوقت الذي تعرّض فيه الأخير حتى الآن لعشرات المحاولات والمضايقات، التي بقيت جميعها بعيدة عن تهديد حياته جديّاً؟
ألم تكن قادرة تلك السلطات فيما لو أرادت، على إزاحته أو إنهاء حياته قبل أن يلمع نجمه عالمياً كمعارض شرس، حاز دعم ومتابعة أكثر الحكومات الغربية، وفي مقدمتها، الأميركية والبريطانية والألمانية؟؟
انطلاقاً من ذلك كله، لم يعد مستبعداً بتاتاً، أن يكون لجهاز استخبارات غربي، بين أميركي أو بريطاني، يد في عملية تسميم المعارض الروسي نافالني، حيث إن تاريخ العملاء المزدوجين بين روسيا وبريطانيا مليء برجال أشداء، جاهزين ذهنياً وتقنياً وفنياً، لتنفيذ أي عمل مهما كانت خطورته وتداعياته، تنفيذاً لاستراتيجية أميركية أو بريطانية أو لاستراتيجية مشتركة بين الاثنتين.