لماذا يسعى ماكرون إلى التقرّب من حزب الله؟
الرئيس الفرنسي الذي يتعهّد بالعمل على وقف الانهيار والانفجار في لبنان، يبدو أنه يعبّر عن منحى الدول الغربية وإدارة ترامب. لكنه ربما يعوّل على جهود حزب الله لمواجهة فساد الطبقة السياسية واهتراء الدولة.
في عراضة شوارع بيروت التي تدغدغ أهواءه الجماهيرية، حرص الرئيس الفرنسي على أن يقطع أحلام بعض اللبنانيين الذين يتخيلون عودة الانتداب هي حبل الخلاص المأمول من تلاحق الأزمات التي تهدّد أسباب الحياة وسبُل العمران.
لكن الرئيس الفرنسي في مخاطبته المحتفين المثكولين بفاجعة الانفجار، يضع نصب عينيه وقف مراهنات السياسيين الذين باشروا بالذهاب إلى مسار الأحداث التي هدّدت بفتنة طائفية وانقسام عامودي في لبنان والمنطقة إثر اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري.
بل أكثر من ذلك وضع ماكرون على عاتقه دفع أقطاب النظام المعوّلين على إسقاط الحكومة والتحريض على حزب الله، إلى مسار آخر عبّر عنه في اجتماع قصر الصنوبر.
إعلان النائب مروان حمادة عن استقالته من المجلس النيابي، هو بمثابة اختبار للاتجاه إلى استقالة جماعية يمكن أن تؤدي إلى الاستغلال السياسي بذريعة انتهاء شرعية المؤسسة التشريعية. وهو ما يفتح الطريق إلى التحريض لنزع الشرعية عن رئاسة الجمهورية والمؤسسة التنفيذية في الحكومة، أملاً في العودة إلى تجديد كرّة الانقلاب السابق.
الأولوية هي لوقف الانهيار والانفجار
يسعى الرئيس الفرنسي إلى قطع الطريق على قطبي التحريض المحلّي ضد حزب الله، الذي يتمثّل بالحملة السعودية لتحميل الحزب مسؤولية الانفجار النكبة ومسؤولية فساد الطبقة السياسية وانهيار الدولة. فقد رفض الاجتماع المنفرد مع أقطاب منظومة الفساد والاهتراء الذين يأملون التعويم من تحت الأنقاض، وأصرّ على اجتماع قصر الصنوبر الذي يضم كلّ الأطراف المعنيين. لكنّه ميّز حزب الله عنهم في حديثه المنفرد مع رئيس كتلة الوفاء للمقاومة، في إشارة سياسية إلى الحزب مفادها أنه يثني على صدقية الحزب ومساعيه لمكافحة الفساد ووقف الخراب.
أبعد من ذلك ينقل السفير الفرنسي في بيروت الذي يحضّر ملفات مبادرة ماكرون أثناء عودته إلى بيروت في الأول من سبتمبر/ أيلول، أن الرئيس الفرنسي يعوّل على جهود الحزب لتسهيل طي الارتدادات الناجمة عن مخاطر الأزمة الاقتصادية والأزمة السياسية. وفي هذا السبيل نهرّ ماكرون سمير جعجع الذي حاول التلميح إلى ما سماه حكومة حزب الله وإلى الدسّ على الحزب بدعوى مسؤوليته عن عدم الاستقرار خدمة لإيران.
بحسب ما رشح عن السفير الفرنسي، يهدف ماكرون إلى اتصالات فرنسية مميّزة مع الحزب بدليل رفضها وضعه على لائحة الإرهاب على الرغم من الضغوط الأميركية والبريطانية والحلفاء الأوروبيين. لكنه أسرّ إلى رئيس الكتلة النائب محمد رعد بأن مساعيه أبلغها إلى الرئيس ترامب الذي لم يعترض، وأن فرنسا مصمّمة على منع انفجار الأزمة الاقتصادية والفوضى الأمنية.
مصائب قوم عند قوم فوائد
يبدو أن السفارة الفرنسية في بيروت قد نما إلى مسامعها، أن البنك المركزي لم يعد لديه ما يكفي من العملات لتغطية النفقات الأولية الضرورية أكثر من شهرين أو ثلاثة على أبعد تقدير بسبب ضرورة تلزمه بالمحافظة على احتياط نقدي غير قابل للتصرّف.
فاجعة لبنان في عاصمته بيروت، تستنفر المشاعرالانسانية في الشعوب التي تهبّ للتضامن والإغاثة. لكنها في الوقت نفسه مناسبة ثمينة لمصالح الدول التي تطمح إلى استغلال المناسبة الإنسانية من أجل توسيع نفوذها وازدهار مصالحها. ففرنسا هي في صدارة الدول التي تأمل في لبنان التعويض عمّا خسرته في العراق ثم في سوريا، ولم يبقَ لها موطىء قدم في الشرق الأوسط سوى لبنان.
الصراع الجيوسياسي على أشدّه في شرق البحر المتوسط بين تركيا الصاعدة للسيطرة على آبار النفط والغاز والممرات المائية، وبين فرنسا المهزومة في ليبيا والتي تخشى قدوم المارد الصيني نحو ميناء بيروت خصوصاً بعد الحاجز الأميركي ـ- الإسرائيلي في ميناء حيفا.
في هذا السياق تتقاطع فرنسا مع ترامب وتتقاطع في الوقت نفسه مع الإمارات التي تحاول التمدّد نحو المرافىء الشرقية. لكن الأسباب الاستراتيجية الأكثر عمقاً في هذه التقاطعات، تعود إلى فشل مراهنة ترامب على الحصار وأقصى العقوبات لفرض الاستسلام على إيران والمقاومة بعد الانسحاب من الاتفاق النووي. وفشله في فرضه قوانين العقوبات على أوروبا والصين وروسيا لمنعها من التعامل مع إيران.
هذه المراهنة أدّت إلى توطيد العلاقات بين إيران والصين في العقود التي تتجاوز قيمتها 400 مليار دولار، وهو ما دفع أوروبا إلى الحديث عن مرحلة جديدة مع إيران ودفع ترامب أيضاً إلى التعهّد بابرام اتفاقات مع إيران وكوريا الشمالية إذا فاز بالانتخابات. وفي هذا الإطار يُبدي ترامب استعداده للمشاركة في مؤتمر باريس من أجل لبنان ويوزّع الإشارات السياسية باتجاه الإغاثة.
لبنان حقل الاختبار في متغيرات المنطقة
لا يغيّر ماكرون ما أنذر به وزير خارجيته في زيارته لبيروت، لكنه يغيّر المقاربة في اتكائه على الفاجعة وارتداداتها. فهو ينطلق من الإجماع الغربي على أن مدخل العبور إلى الديون واستثمار الرساميل "للمساعدات والدول المانحة"، يبدأ من صندوق النقد والبنك الدولي.
في هذا المسار ترتبط كل المسكنات لكسب الوقت ومنع المزيد من الغرق في قعر الهاوية، بخصصة الكهرباء المنهوبة وإتاحتها للرساميل والشركات الأجنبية وخاصة الفرنسية. وفي خصخصة المرفأ "لإعادة الإعمار"، وفي خصخصة أملاك الدولة الناجية من النهب في "صندوق سيادي" من أجل إعادة تسييل المصارف والودائع عبر ديون "الدول المانحة" في مؤتمر سيدر.
فضلاً عن الشروط الاجتماعية الأخرى التي تفرضها وصايا صندوق النقد والبنك الدولي كرفع الدعم وتقليص الخدمات الاجتماعية وتقليص أعداد الموظفين في الدولة وخصخة المياه.... وإتاحة كل ما تحتاجه استثمارات السوق الدولية والتجارة الحرّة. وبالاختصار الخيار بين كوليرا النهب والفساد المحلّي وبين طاعون النهب الأجنبي.
الأحلام الاستراتيجية السياسية بشأن ما تسميه الدول الغربية "السلام من أجل الازدهار"، تبقى على حالها لكنها تعود إلى الخلف كما عادت أثناء توقيع الاتفاق النووي. فهذه الدول لديها معتقدات صلبَة افتراضية بأن حرية الرساميل الاجنبية في الاستثمار وحرية السوق والتجارة في السوق الدولية، تؤدي عاجلاً أو آجلاً إلى ما تسميه السلام مع "إسرائيل" طبعاً. وتؤدي إلى انكفاء كل بلد على نفسه تحت وصاية شروط السوق والمؤسسات الدولية، من أجل حماية الاستقرار شرطاً إلى المزيد من "الازدهار".
تحركات ماكرون والإشارات الأميركية نحو لبنان والمنطقة، تشي بمنحى العودة الغربية إلى ما قبل الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي. وتنمّ في الوقت نفسه عن مأزقها أمام التدهور الغربي في تحوّلات المنظومة الدولية. وما تؤمن به من معتقدات اقتصادية تؤدّي إلى فرض أمر واقع سياسي في التنازل عن المقاومة من أجل الحقوق والندّية، قد يكون له مبرراته في بعض تجارب العالم الثالث.
التجارب المتلاحقة منذ أربعة عقود مع إيران ومع حزب الله، تؤكّد أن ما يصحّ على البعض الذي سقط في أوهام الترويج للحضن الغربي الدافىء، لا يصحّ على إيران والمقاومة المخضّبة بدماء شهداء الثبات على الحقوق.