تركيا واليونان.. من ذكريات التاريخ إلى احتمالات الحرب
إن تحقق احتمال توقيع اتفاقية لترسيم الحدود بين تركيا "إسرائيل"، كتلك التي تم التوقيع عليها مع ليبيا، فسوف يقلب موازين القوى في المنطقة رأساً على عقب، لأنه سيستهدف أولاً مصر وسوريا ولبنان، ومعها روسيا.
لم يكن تحويل متحف آيا صوفيا إلى جامع هو السبب الوحيد والأخير في مسلسل أيام الفتور والتوتر بين الجارتين اليونان وتركيا طيلة السنوات الماضية. وقد قالت أثينا: "إننا نراقب بدهشة بالغة الحماقات التركية القومية العثمانية"، فردَّت عليها تركيا: "على اليونان أن تصحو من حلمها البيزنطي الذي طال 567 عاماً"، في إشارة إلى سيطرة محمد الفاتح على القسطنطينية، أي إسطنبول، في العام 1453.
ورغم أنّ المقولتين تدغدغان المشاعر القومية والدينية لدى الطرفين، فإنَّ الأمر بات أكثر تعقيداً بعد التطورات الأخيرة في العلاقة بين الدولتين اللتين تملكان الكثير من الأسباب للعداء التاريخي والديني والاستراتيجي، إذ ترى اليونان نفسها وريثة الإمبراطورية البيزنطية المسيحية، فيما تعتبر تركيا نفسها امتداداً للدولة العثمانية التي اندثرت بعد الحرب العالمية الأولى، إذ احتلّت اليونان وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا وروسيا أراضي تركيا الحالية.
وجاء توقيع تركيا على اتفاقية ترسيم الحدود مع ليبيا في الأبيض المتوسط ليفتح صفحة جديدة وخطيرة في العلاقة بين الدولتين، نظراً إلى انعكاسات ذلك على جميع دول المنطقة، بعد أن اعتبرت أثينا الاتفاقية "استفزازاً وعدواناً صارماً على مصالحها القومية"، باعتبار أنّ المنطقة التي حدّدتها الاتفاقية تتقاطع مع المناطق الاقتصادية لجزيرتي رودوس وكريت في الأبيض المتوسط.
أثار هذا الحديث سلسلة من النقاشات السياسية والقانونية، بسبب الخلاف حول العديد من بنود اتفاقية البحار الدولية للعام 1982، والتي تعترف للدول بمئتي ميل كمنطقة اقتصادية، فيما يخيّم الغموض على حقوق الجزر التابعة لهذه الدول، كما هو الحال بالنسبة إلى اليونان التي تمتلك حوالى 3 آلاف جزيرة في الأبيض المتوسط وبحر إيجة، وهناك حوالى 200 منها مأهولة بالسكان، وبعضها قريبة جداً (2-3 ميل) من الشواطئ التركية.
وتسيطر اليونان، وفق طروحاتها الخاصة بالمياه الإقليمية، على 70% من مياه بحر إيجة، لتبقى حوالى 10% منها كمياه إقليمية لتركيا، والباقي مياه دولية. وكان بعض هذه الجزر التي أصبحت يونانية إبان الحرب العالمية الأولى وهزيمة الدولة العثمانية وخلالها وبعدها، وما زالت، سبباً للعديد من التوترات الساخنة بين الدولتين، إذ اعترضت أنقرة على حسابات أثينا الخاصة بالمياه الإقليمية والجرف القاري والمجالات الجوية لهذه الجزر التي يمكن أن يراها المواطن التركي بالعين المجردة.
ومع استمرار مساعي اليونان طيلة السنوات الماضية، والآن، بصفتها عضواً في الاتحاد الأوروبي، لجر كل من أوروبا وأميركا إلى صراعها الساخن مع الأتراك، فقد بقيت قضايا الخلاف معلقة، إلى أن بدأ الحديث عن الغاز الطبيعي والبترول في المناطق الاقتصادية لقبرص، وهي أيضاً عضو في الاتحاد الأوروبي.
وقد أرسلت أنقرة سفنها للبحث والتنقيب عن الغاز في المناطق المتنازع عليها في البحر الأبيض المتوسط، وفي جوار قبرص المعترف بها دولياً، ويمثلها القبارصة اليونانيون الذين وقعوا خلال السنوات القليلة الماضية على العديد من الاتفاقيات مع "إسرائيل" ومصر ولبنان واليونان، مع انضمام شركات فرنسية وإيطالية وأميركية وبريطانية إلى هذه الاتفاقيات، بهدف استخراج ونقل حوالى 130 تريليون متر مكعب من غاز الدول المذكورة (وقطاع غزة) إلى جزيرة كريت، ومنها إلى اليونان وإيطاليا، وأخيراً أوروبا، لمنافسة الغاز الروسي.
لم تعترف أنقرة بهذه الاتفاقيات، وهي تقول إن القبارصة اليونانيين لا يمثلون الجزيرة، وإن اتفاقية لندن للعام 1960 اعترفت لها ولليونان وبريطانيا بحق التدخّل في الجزيرة كدول ضامنة لاستقلالها، وهو ما فعلته في العام 1974، بحجة حماية القبارصة الأتراك بعد انقلاب مدعوم من أثينا ضد الرئيس الأسقف مكاريوس.
وكان هذا الموقف التركي حيال غاز قبرص، وعرقلة أنقرة مشاريع أنبوب الغاز، سبباً لسلسلة من التوترات في شرق الأبيض المتوسط، نظراً إلى انعكاسات ذلك على الواقع العسكري، إذ أرسلت العديد من الدول سفنها الحربية إلى المنطقة الممتدة حتى السواحل الليبية، وفيها حوالى 20 سفينة حربية تركية.
دفع ذلك أثينا إلى الاستنجاد بواشنطن، التي أرسلت يوم السبت حاملة الطائرات النووية "يو أس أس إيزنهاور" إلى المنطقة، وعلى متنها 90 طائرة، ومعها 12 سفينة حربية أخرى، لتشارك خلال يومي 2-3 آب/أغسطس مع القوات الجوية والبحرية اليونانية في مناورات واسعة اعتبرتها الأوساط الدبلوماسية والعسكرية تحذيراً أميركياً للرئيس إردوغان.
وسبق ذلك مناورات بحرية شاركت فيها سفن من اليونان ومصر وفرنسا و"إسرائيل" وإيطاليا بشكل ثنائي أو ثلاثي، وهو ما يرشح المنطقة إلى مزيد من التعقيد، مع حديث الأميرال المتقاعد جهاد يايجي (صاحب فكرة التوقيع على الاتفاقية مع ليبيا) عن اتفاقية لترسيم الحدود مع "إسرائيل"، كتلك التي تم التوقيع عليها مع ليبيا، وهو الاحتمال الذي إن تحقق بموقف مفاجئ من أنقرة، فسوف يقلب موازين القوى في المنطقة رأساً على عقب، لأنه سيستهدف أولاً مصر وسوريا ولبنان، ومعها "الصديق العدو" روسيا، وخصوصاً بعد أن أثبتت كل التطورات الأخيرة، وقبلها تلك التي عاشتها المنطقة بسبب التدخل التركي فيها منذ ما يُسمى بـ"الربيع العربي"، أن الرئيس إردوغان لن يتراجع عن مقولاته ومواقفه وتحركاته العملية ذات الطابع العقائدي والاستراتيجي، وهو ما أثبته أيضاً من خلال ما قام به، ولا يزال، في سوريا وليبيا والعراق وقطر والصومال وكل المناطق التي تواجد فيها العثمانيون، والآن بتحويله إلى متحف آيا صوفيا إلى جامع.
ويعرف الجميع أنَّ هذا القرار لا يستهدف اليونان فحسب، بل كلّ الدول التي تسعى إلى عرقلة مشاريع الرئيس إردوغان ومخططاته في بحر إيجة والأبيض المتوسط والجغرافيا العربية التي حكمها العثمانيون بقوة السيف. وقد عاد رئيس الشؤون الدينية (وهو بمثابة وزير الأوقاف) علي أرباش في خطبة الجمعة في جامع آيا صوفيا، وحمل هذا السيف، ومن خلفه زعيمه السياسي والعقائدي إردوغان، وإلى جانبيه وزير الدفاع خلوصي آكار ورئيس الأركان يشار أوزال، وهو يصلي بالزي العسكري، ليكون في كل هذه التفاصيل الكثير من الإشارات والمعاني لمن يهمه الأمر!
يأتي كلّ ذلك في ظل غياب الجدية في موقف الاتحاد الأوروبي، بعدد أعضائه الـ27، تجاه سياسات الرئيس إردوغان الّتي تزعج العديد من الدول الأوروبية، وخصوصاً ألمانيا وفرنسا والنمسا وبلجيكا وهولندا، وفيها العدد الأكبر من الأتراك والمسلمين المتعاطفين مع تركيا، التي تستثمر فيها حوالى 15 ألف شركة أوروبية ما قيمته تريليون دولار في العديد من المجالات، وأهمها المصارف والبورصة.
وتتحدّث المعلومات عن استمرار دعم الرئيس ترامب للرئيس إردوغان، الذي يقول زعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كليجدار أوغلو عنه إنه "ما زال حليفاً قوياً لأميركا، وهو ينفذ دائماً الأجندات الأميركية" في سوريا وليبيا والخليج والبلقان والقوقاز ومناطق أخرى يعتبرها ضمن اهتماماته السّياسيّة والاقتصاديّة، والأهم العقائديّة والاستراتيجيّة.
ويبقى الرهان على الموقف المحتمل لأتباع الرئيس إردوغان وأنصاره من الإسلاميين العرب وغيرهم، ما داموا كانوا دائماً حلفاء لأميركا، وهم الآن يرون في واشنطن صديقاً يمكن الاعتماد عليه في حالات الضّيق، وهي كثيرة بالنسبة إلى إردوغان الّذي يزداد عدد أعدائه يوماً بعد يوم.
وقد بات واضحاً أن الرئيس إردوغان، وبذكرياته العثمانية، يخطط لمواجهتهم جميعاً، ولكن بدعم الذين بايعوه من الإسلاميين في العالم كدول وحكومات وأحزاب ومنظمات وأفراد، وهم أيضاً ليسوا قلة، والمشكلة في معظمهم أنهم يتجاهلون "إسرائيل"!