تركيا العثمانيَّة.. من السّلطان عبدالحميد إلى إردوغان
تعكس التحركات التركية، العلنية منها والسرية، في جميع أنحاء العالم العربي والبلقان والقوقاز وآسيا الوسطى، رغبة إردوغان في إحياء ذكريات الخلافة والسلطنة العثمانية بطابعها الجديد.
تشهد تركيا نقاشاً مثيراً حول فترة السلطان عبدالحميد الّذي حكم الدولة العثمانية من آب/أغسطس 1876 وحتى نيسان/أبريل 1909، عندما أطاح به حزب الاتحاد والترقّي، ليحلّ محلّه السلطان محمد رشاد، ومن بعده السّلطان الأخير وحيد الدين، الَّذي غادر إسطنبول على متن مدمّرة بريطانية بعد هزيمة الدّولة العثمانيّة في الحرب العالمية الأولى.
وخلافاً لأحاديث المديح والتمجيد التي أبرزها الرئيس التركي رجب طيب إردوغان وإعلامه خلال السنوات الأخيرة، خرج رئيس تحرير قناة "TELE1" الإخباريّة المعارِضة ماردان ينار داغ، ليصف السلطان عبدالحميد بكلّ الصفات السيئة سياسياً، ويقول عنه إنه "سلطان استبداديّ دمويّ إجراميّ وخائن، باع كلّ ممتلكات الدّولة العثمانيّة التي خسرت في عهده 1.6 ملايين كم مربع من أراضيها، وكان السّبب في إفلاسها، كما باع فلسطين للصّهاينة".
وقد أثار كلام ينار داغ ردود فعل عنيفة في الإعلام الموالي للرئيس إردوغان، فيما يستعدّ المجلس الأعلى للإذاعة والتلفزيون لاتخاذ قرارات صارمة بحقّ القناة. ورفع بعض أتباع إردوغان دعاوى قضائية ضد ينار داغ بتهمة الإساءة إلى رموز الأمة التركية.
واكتسب هذا النّقاش أهميّة إضافيّة، لأنه تزامن مع أحاديث الأوساط السياسية والإعلامية في الداخل والخارج، والتي شبَّهت الرئيس إردوغان وحكمه بحكم السّلطان عبدالحميد بالمفهوم السيئ، فيما صوَّرت المسلسلات التي أخرجها أتباع إردوغان السلطانَ عبدالحميد "بأنّه بطل تاريخيّ تآمرت عليه كلّ الدول والقوى الإمبريالية والصهيونية، ولكنه انتصر عليها، فأسقطه الاتحاد والترقي، وهو حزب يسيطر عليه اليهود والماسونيون".
وتتناقض المعلومات والأقاويل بين أتباع إردوغان الَّذين "يتغنّون بأمجاد عبدالحميد"، والمعارضين الذين يتحدّثون "عن النظام الاستخباراتي الشنيع التابع له، وهو الَّذي قام بتصفية كلّ معارضيه، بل إنه سجن مصطفى كمال أتاتورك 4 مرات في شبابه".
ولم ينسَ هؤلاء الإشارة إلى أن عبدالحميد، وهو السلطان رقم 34 من بين السلاطين العثمانيين الذين حكموا الدولة العثمانية، وعددهم 36، لا يختلف عن أسلافه، فمعظم أمهات السلاطين غير مسلمات (مسيحيات ويهوديات وأرمنيات)، وهو الحال أيضاً بالنسبة إليه، فوالدته أرمنية، والبعض يقول إنها شركسية، فيما لم يشبه عبدالحميد السّلاطين الآخرين الَّذين قتلوا آباءهم وإخوتهم وأخواتهم وأقرب المقربين إليهم من أجل السلطة، كما قطعوا رؤوس أكثر من 45 رئيساً للوزراء وعدد مضاعف من الوزراء وكبار المسؤولين.
ومع احتمالات أن يستمرّ هذا النقاش المحتدم بين أتباع عبدالحميد والمعادين له، فإنَّ الكثيرين يرون فيه علاقة مباشرة بما يتغنّى به الرئيس إردوغان عندما يتحدّث عن إحياء ذكريات الخلافة العثمانيّة على الصّعيدين الداخليّ والخارجيّ.
وتتّهم المعارضة إردوغان بالعمل على إقامة حكم استخباراتي استبدادي، بعد أن سيطر على جميع مرافق الدولة وأجهزتها ومؤسساتها، كما فعل السلطان عبدالحميد الّذي أوصل البلاد إلى حافة الإفلاس، وفق كلام المعارضة، التي تستغرب محبة إردوغان للسلطان عبدالحميد الّذي هُزم في جميع حروبه الخارجية.
ويرى آخرون في محبّة إردوغان وأتباعه لعبدالحميد علاقة مباشرة بين السلطان والسياسة الخارجية للرئيس التركي الحالي، الذي يسعى إلى استرجاع ما خسره الأخير خلال السنوات الأخيرة من حكمه في البلقان والقوقاز والعالم العربي.
ويفسر ذلك سياسات أنقرة الحالية في التواجد والانتشار العسكريّ الفعال في سوريا وليبيا وقطر والعراق والصومال وأذربيجان، إضافةً إلى البوسنة وأفغانستان، تحت غطاء الأمم المتحدة وحلف الأطلسي، في الوقت الَّذي تستمرّ العديد من المؤسسات التركية الرسمية وغير الرسمية في أنشطتها المختلفة في العديد من دول الدولة العثمانية السابقة، مع دعم تركي رسمي وعلني لكلّ الجماعات الإسلامية الإخوانية في جميع أنحاء العالم، وفي مقدمتها الدول العربية التي تحكمها أو تتواجد فيها أنظمة أو قوى معادية للرئيس إردوغان، وفي مقدمتها مصر والسودان وموريتانيا والجزائر واليمن وتونس والأردن.
ومثّل حديث إردوغان وإعلامه في بدايات الأزمة السورية عن التركمان في سوريا نهجاً جديداً في سياسات أنقرة التي أولت لبنان اهتماماً خاصاً، أولاً لقربه من سوريا، وثانياً لكثرة الأحزاب والقوى المعادية لدمشق فيه، وتردّد بعض زعمائه إلى أنقرة، التي كانت، وما زالت، على علاقات وطيدة معهم ومع التركمان الّذين يعيشون في لبنان، والذين لهم علاقات واسعة مع مختلف أجهزة الدولة التركية، بحسب معلومات مصدرها جهات لبنانية رسمية.
وتعكس كلّ هذه التحركات التركية، العلنية منها والسرية، في جميع أنحاء العالم العربي والبلقان والقوقاز وآسيا الوسطى، رغبة إردوغان في إحياء ذكريات الخلافة والسلطنة العثمانية بطابعها الجديد الذي عبَّر الرئيس الفرنسي ماكرون، ومعه المستشارة الألمانية ومسؤولون أوروبيون آخرون، عن قلقهم منه، لأنه بات يشكّل خطراً أمنياً على أوروبا التي يتواجد فيها حوالى 5 ملايين تركي، إضافةً إلى 10 ملايين مسلم.
ويعتقد إردوغان أنَّ هؤلاء سيتضامنون معه، بعد أن أعلن نفسه زعيماً سياسياً وروحياً للعالم الإسلامي الذي لم يعد تحت تأثير وسيطرة الفكر الوهابي لآل سعود، الَّذين خدموا المشروع الأميركي طيلة 70 عاماً الماضية. وبات واضحاً أنّ آل ثاني الذين تحميهم القواعد الأميركية يسعون إلى أن يحلّوا محلّ آل سعود، بدعم من جيش تركيا ذات التاريخ العثماني والجمهوري؛ الجيش الذي يريد له البعض أن يواجه إيران عند اللزوم!
وتثبت كلّ هذه المعطيات وخطابات الرئيس إردوغان ومقولات إعلامه الذي يهدد الجميع ويتوعَّدهم، وخصوصاً مصر والإمارات والسعودية والأردن، أن تركيا لن تتراجع عن موقفها الحالي وسياساتها "التوسعية" ذات الطابع العثماني.
بمعنى آخر، إنَّ تركيا، وفي الظروف والمعطيات العربية والإقليمية والدولية الحالية، لن تنسحب من الأماكن الّتي يتواجد فيها الجيش التركي، الذي يبحث لنفسه عن مواطئ قدم جديدة في المنطقة. ويفسّر ذلك كلام إردوغان، الّذي علّل التواجد العسكري التركي في ليبيا ببقايا العثمانيين فيها، وقال "إنَّ عددهم مليون نسمة" من أصل 6 ملايين هم سكان ليبيا، كما سبق له أن تحدَّث عن "حقوق التركمان في سوريا والعراق".
ولم تهمل أنقرة علاقاتها مع كلّ الأحزاب والقوى والجماعات والتنظيمات، السياسية منها والاجتماعية والمسلّحة، سراً كان أو علناً في العالم، وهي ترى فيها جميعاً قوتها الاحتياطيّة لمواجهة أعداء تركيا العثمانية، وخصوصاً بعد أن بايعت معظم هذه القوى الرئيس إردوغان، بصفته الزعيم السياسيّ والروحيّ لكلّ الإسلاميين في العالم، وهو يريد لهم "أن يروا في إسطنبول، عاصمة الدولة العثمانية، كعبتهم الجديدة"، بعد أن دنَّس آل سعود الأماكن المقدسة في مكَّة المكرمة والمدينة، على حد قول إعلام إردوغان الذي يتوعّد آل سعود وآل نهيان بالقضاء عليهم في عقر دارهم، إذا استمرّ عداؤهم للأخير في ليبيا وسوريا والعراق والصومال، أو أي مكان آخر في العالم يتواجد فيه الأتراك الذين يتغنّون بأمجاد السلطان القديم والجديد!