السعودية في زمن كورونا.. نهاية لعبة الحظ؟

هل اقتربت نهاية السعودية؟ تستدعي هذا السؤال تحديات وجودية سبقت عصر كورونا، ويعزّزها اليوم الوباء الذي يغزو المملكة، ومعها دول لطالما وفّرت لها الشرعية، لكنّ للأقدار لعبتها وقوانينها الخاصة، فهل يحسن محمد بن سلمان التقاط الفرص أم يعجّل النهايات المحتومة؟

  • السعودية في زمن كورونا.. نهاية لعبة الحظ؟
    السعودية في زمن كورونا.. نهاية لعبة الحظ؟

 

شاخت السعودية. تبدو عليها اليوم معالم العجز أكثر من أي وقت مضى. في هذه المرحلة من عمر الدول، يصبح الجسم أقل مناعة تجاه التحديات، فكيف الحال إذا كانت تعاني من أمراض مستعصية؟

لم يكن هذا الواقع طاغياً منذ 5 سنوات.. ظاهرياً على الأقل. حينها، كان التحدّي يكمن في تأمين انتقال سلس للحكم من جيل الأبناء إلى جيل الأحفاد. 

حاول الملك السابق عبدالله بن عبدالعزيز اجتراح حلول أمام هذه المعضلة. كان هو من استحدث "هيئة البيعة" تلافياً لهذا الانقطاع ولتأمين ديمومة الحكم. أنشأ أيضاً منصب ولي ولي العهد للمرة الأولى. أول من تبوأ هذا المركز كان الأمير مقرن بن عبدالعزيز. خطوة نظر إليها بعض المراقبين باعتبارها تعبّر عن رغبة عبدالله في تعبيد الطريق أمام نجله متعب وفقاً للسيناريو التالي: يصبح مقرن ولياً للعهد بعد وفاة عبدالله وتولّي سلمان الحكم، وهذا ما حصل. ولاحقاً، عندما يرث مقرن الحكم تلقائياً بعد سلمان، يُعيِن متعباً ولياً للعهد بعد أن يقصي الآخرين.

لم يقدّر ذلك لمتعب ولا لمقرن. عندما خلف سلمان أخاه غير الشقيق عبدالله، الذي وافته المنية في كانون الثاني/يناير 2015، كانت لديه ولدى سلالته خطط أخرى. حصلت جملة تغييرات على دفعات كي لا تثير الريبة، وتجنباً لأي انقلاب أو ارتداد عليها.

عيّن سلمان فور تسلّمه الحكم مقرناً ولياً للعهد. كان هذا متوقعاً. لكن جرى أيضاً تعيين محمد بن نايف ولياً لولي العهد. خطوة أوحت بأنه أول من سيتولى الحكم من أبناء الجيل الثاني. بدا كأن أمير الرياض السابق يمهّد لصفحة جديدة في المملكة المتوارثة بعيداً من أي أطماع شخصية.

في نيسان/أبريل 2015، أعفى الملك سلمان مقرناً من منصبه كولي للعهد، وعيّن محمد بن نايف ولياً للعهد، ثم محمد بن سلمان ولياً لولي العهد، معززاً بهذا القرار عهد الأحفاد. 

لكنّ المشهد انقلب بصورة درامية في حزيران/يونيو 2017. أُقصي محمد بن نايف من مناصب ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الداخلية بما يشبه الانقلاب الأبيض.

منذ ذلك الحين، بات محمد بن سلمان ولياً للعهد والرجل الأقوى من دون منازع. بقي منصب ولي ولي العهد شاغراً، ويبدو أنه سيبقى كذلك.

تحديات بالجملة غرق فيها العهد الجديد بقيادة أمير مغامر ومحدود الخبرة، لكنّه أيضاً محظوظ. من حظّه ربما وصول دونالد ترامب إلى سدة الرئاسة الأميركية. وفّر له الأخير شرعية خارجية، فيما تولّى الأمير الشاب والمتحفّز القضاء على أي تهديد داخلي. 

حصل ذلك خلال فترة وجيزة مرّت كأنها دهر. طوّع المعارضين. زجّ برموز الإخوان المسلمين ودعاتهم في السجن. رتّب أمور العائلة الحاكمة على طريقته. أحكم قبضته على الأجهزة الأمنية وعلى مفاصل البلد. قضى على الثالوث المقدس الذي لطالما استمد منه أسلافه شرعية الحكم: توازنات داخل العائلة الحاكمة، ومباركة السلطة الدينية، ومزايا نظام الريع الاقتصادي الذي بدأ يتقلّص. 

جاء ذلك ضمن رؤية ثقافية اجتماعية شكّلت انقلاباً على تقاليد راسخة. خلال 3 سنوات، حطّم ابن سلمان أصنام أسلافه. كسّر محرمات اجتماعية ودينية، وراهن على شرعيات جديدة ما زالت قيد الاختبار. في الخارج، غطاء دونالد ترامب والاستمرار في رشوة الدول المقررة، وفي الداخل تأييد الشباب. لم يأتِ ذلك من فراغ، بل على الأرجح من توصيات شركات استشارية عالمية، من أمثال "ماكيزي" وأخواتها.

بحسب الإحصائيات الرسمية الصادرة أواخر العام 2019، بلغت نسبة الفئة العمرية للسعوديين دون سن 35 عاماً نحو 67% من إجمالي عدد السكان. أما الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و34 عاماً، فبلغت نسبتهم نحو 36%. 

في زمن تحليل البيانات الضخمة، لم يكن صعباً على ابن سلمان أن يجد ضالته. حل التغريب مكان التقاليد القبلية، وحلّت "هيئة الترفيه" مكان "هيئة الأمر بالمعروف". من الآن وصاعداً، سوف يستند ابن سلمان إلى هذه القاعدة الشعبية. جاءت مشاهد الحفلات الصادمة وغير المعتادة سابقاً لتقصي رقصة السيوف وتفسح المجال أمام "الديسكو الحلال".

لكنّ الرقص في شوارع الرياض لم يحجب التحوّلات العميقة داخل المملكة وفي محيطها القريب والبعيد. أصوات الموسيقى الصاخبة لم تطغَ على المخاطر التي باتت تحيق بالمملكة وتقترب منها رويداً. ربما وجب الابتعاد عن مكبّرات الصوت لسماع أمواج التغيير الهادرة في الخارج. مملكة النفط لم تعد فتية، بعكس أميرها الشاب وفئاتها العمرية.

في المنطقة، تبدّلت الأحوال منذ اغتيال الفريق قاسم سليماني. أصبحت المبادرة الاستراتيجية في يد محور المقاومة الذي كان مكبلاً قبل ذلك التاريخ بحسابات أخرى. واشنطن حامية المملكة وأميرها باتت تنظر إلى أبعد من عصر النفط. 

في شباط/ فبراير الماضي، حذّر صندوق النقد الدولي دول الخليج من المخاطرة برؤية ثرواتها تتلاشى خلال 15 عاماً. شدد في تقريره على ضرورة القيام بإصلاحات عميقة مع تراجع الطلب العالمي على النفط وانخفاض الأسعار. 

قبل ذلك بسنوات، وتحديداً في العام 2013، بشّر كريستوفر ديفيدسون بالانهيار المقبل للمالك الخليجية، وعلى رأسها السعودية. في مؤلفه "ما بعد الشيوخ"، يفصّل أستاذ مادة التاريخ الحديث في جامعة كامبريدج أسباب ذلك. يرى أن مجموعة ضغوطات داخلية وخارجية بدأت تتراكم في تلك الممالك قبل "الربيع العربي" بمدة. توقع أنه في حال استسلمت إحدى دول الخليج "الهشة" لثورة أو فوضى، فإن البقية ستتهاوى كأحجار الدومينو تباعاً. حينها، سرعان ما سيتبدّد وهم الحصانة أو الاستقرار السابق.

يفرد الكاتب حيّزاً في شرح طبيعة "العقد الاجتماعي" في الخليج. وعليه، لن يبقى الريع القائم على عوائد النفط رابطاً صلباً في تسكين المواطنين السعوديين. 

من هنا، لا يبدو الغرق في مستنقع اليمن آخر التحديات السعودية وأخطرها. منذ ضربة أرامكو الاستراتيجية في أيلول/سبتمبر العام الماضي، فتحت المملكة عينيها على حقيقة جديدة. الحرب على اليمن التي أرادها بن سلمان رافعة إلى الحكم فشلت، لكنّ رافعة أخرى لا تقلّ عنها أهمية تكاد تنهار. إنها "رؤية 2030" التي مثّلت للمفارقة خطة طموحة للانتقال إلى عصر ما بعد النفط.

 أواخر العام الماضي، كشفت وكالة "بلومبرغ" أن السعودية بدأت مراجعة خطتها. أشارت إلى أن وليّ العهد غير راضٍ عمّا تحقق. كان هذا قبل أن يجتاح السعودية ومعها العالم وباء كورونا.

دخلنا زمن الوباء العالمي، ومعه انكماش الاقتصاد العالمي، وتبدّل الأولويات، وارتداد الدول إلى داخل حدودها. لكن بقدر ما يجلب كورونا تحديات جديدة على صعيد الرعاية الصحية والأمن الغذائي والسياسي والاجتماعي، فإنه في حالة السعودية قد يحمل فرصاً غير متوقّعة. هل يبتسم الحظ مرة جديدة لابن سلمان؟

توفّر الجائحة اليوم سلّم نجاة لانسحاب يحفظ ماء الوجه من مستنقع اليمن. كلفة الحرب الباهظة المستمرة هناك هي فرصة لوقف تبديد الأموال على شركات الأسلحة واستثمارها في أمور باتت ملحّة. لكن مع اقتراب موعد الانتخابات الأميركية، هل يترك ترامب "الملك الذي يعجبه" يتملّص من الدفع والمساهمة المالية بهذه البساطة؟

إنها مرحلة انعدام اليقين بالنسبة إلى السعودية. لا تبشّر أرقام الإصابات بفيروس كورونا بالخير. ألمح وزير الصحة إلى إمكانية وصول العدد إلى 200 ألف حالة، ما اعتُبر تمهيداً للإعلان عن الأسوأ. تذكر صحيفة "نيويورك تايمز" أن الفيروس أصاب العشرات من أفراد العائلة المالكة، وتورد أن الملك سلمان وولي عهده يعزلان نفسيهما في موقعين منفصلين على ساحل البحر الأحمر، خشية التقاط العدوى. 

يكمن هنا تحدي التحكم والسيطرة في ظل ظروف التباعد الاجتماعي. في حال اتجهت الأوضاع نحو الأسوأ، سيغدو إفشال أي محاولة انقلاب أو فوضى شعبية أكثر صعوبة. يتعزّز هذا الاحتمال على ضوء ما ذكرته مجلة "نيوزويك" الأميركية. تقول المجلة إن ولي العهد السعودي لا يمكن التنبؤ بأفعاله، ويثير القلق في البنتاغون، وتتساءل عما إذا كانت العلاقة بين ترامب وبن سلمان ستصمد أمام انهيار أسعار النفط ومحاولة الانقلاب المزعومة داخل المملكة. لم يعد ترامب هو الآخر يضمن الرئاسة. تظهر استطلاعات حملته أنه خسر التأييد الذي حصل عليه في وقت مبكر من أزمة كورونا، فيما أظهرت ثلاثة استطلاعات رأي هذا الأسبوع تقدم جو بايدن عليه، بحسب ما تشير "نيويورك تايمز".

وبالتالي، أي بديل عن ترامب هو مشروع ابتزاز جديد لأمير السعودية الطامح الذي ابتسم له الحظ مرة. لا ننسى أن جهات داخل الدولة الأميركية العميقة كانت تفضّل محمد بن نايف وريثاً قبل أن يتم إقصاؤه.

قد يجد بن سلمان نفسه في المرحلة المقبلة أمام مروحة خيارات متعارضة أحلاها مرّ. سيكون عليه أن يرضي أطرافاً في الداخل تفادياً للنقمة، وفي الخارج تفادياً لدعم أي انقلاب عليه، وفي الجوار تفادياً لإشعال نفطه، ومعه غضب الداخل والخارج. 

هو زمن الردة عن "رؤية 2030" التي حمّلت المواطن السعودي ضرائب وأكلافاً لم يعتدها سابقاً. لكنّ العودة إلى زمن الرعاية وتوزيع الريع سيكون سهلاً مقارنة مع تداعيات أي تصعيد غير محسوب مع اليمن. إذا قبلت أميركا بإيقاف الحرب هناك، هل تستطيع السعودية التعايش مع التوازنات الجديدة في حديقتها الخلفية؟ 

تغدو الإجابات أصعب في زمن كورونا. فرص الجنوح إلى السلم قد تبدو أكثر نضجاً، لا سيما أن الصواريخ اليمنية الدقيقة ستكون هذه المرة أكثر كلفة متى أصابت أهدافها.