إردوغان والعرب.. ذكريات تاريخيّة أم حسابات عقائديّة؟
تراهن أنقرة على التوازنات الحسّاسة في تونس والجزائر والمغرب، وتعتقد أنَّ هذه التوازنات بعناصرها الإخوانيَّة ستساعدها على محاصرة مصر التي لا تخفي قلقها من التحركات التركية في أفريقيا.
في آخر لقاءٍ جمع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان بالزعماء العرب في قمّة سرت نهاية آذار/مارس 2010، وكنت حاضراً حينها، حظي الرئيس التركي باهتمام هؤلاء الزعماء، وفي مقدمتهم العقيد معمر القذافي، الذي أدّت أنقرة بعد عام من القمة دوراً مهماً في المشروع الغربي الذي أدى إلى إسقاطه وتدمير ليبيا. وجاءت أحداث "الربيع العربي" وحسابات إيصال الإخوان المسلمين إلى السلطة في دول المنطقة لتشجّع إردوغان ومستشاره أحمد داوود أوغلو على مزيدٍ من التدخل في شؤون المنطقة العربية، وكانت آنذاك في وضع لا تحسد عليه أبداً.
وقد أدّى داوود أوغلو، ومعه نظيره القطري حمد بن جاسم والسعودي سعود الفيصل، دوراً فاعلاً في قرار تعليق عضوية سوريا في الجامعة العربية في 12 تشرين الثاني/ نوفمبر 2011، ليكون ذلك بداية العمل العربي- التركي المشترك ضد سوريا ومن معها، أي إيران وروسيا وحزب الله.
وتتالت الأحداث لتصبح أنقرة اللاعب الأساس في أحداث سوريا عموماً، فلولاها لما وصلت الأمور هناك إلى ما وصلت إليه بسبب الحدود البرية المشتركة، ولولا تركيا أيضاً لما تجرأت أنظمة الخليج على التدخّل في سوريا، إذ اعتقدت أنَّ الدور التركي "العثماني السني" سيوازن الدور الإيراني "الصفوي الشيعي"، العدو التقليدي والتاريخي للأتراك.
كان إردوغان قد تجاهل هذا العداء بعد استلام حزب العدالة والتنمية السّلطة نهاية العام 2002، ليصبح صديقاً معه. وقد أقام علاقات مثيرة مع بغداد ومع الرئيس السوري "العلوي"، ربما لكسب ودِّ علويي تركيا، الذين يشكّلون حوالى 20 مليوناً من أصل 80 مليوناً، من دون أن يهمل آنذاك علاقاته مع باقي الدول العربية "السنّية"، فبذل مساعي مكثّفة من أجل المصالحات العربية- العربية، وتجاوزها في محاولةٍ أكثر أهمية عندما سعى إلى تحقيق المصالحة السورية- الإسرائيلية، والتي كادت تنجح لولا الخبث الصّهيونيّ التقليديّ الّذي غدر بإردوغان، وقرّر إيهود أولمرت، رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق، شنّ عدوان كبير على غزة في 27 كانون الأول/ ديسمبر 2008.
وكان "الربيع العربيّ"، بتطوّراته اللاحقة، كافياً لنسف كلّ الجسور التي بناها إردوغان مع جميع الأطراف، وانتقل معظمها إلى الخندق المعادي لتركيا التي يريد لها إردوغان أن تؤدي دوراً ريادياً في العالمين العربيّ والإسلاميّ، مهما كان موقف الدول العربية.
فقد كانت مصر والسعودية والإمارات والبحرين مع أنقرة في الحرب ضدّ سوريا، لكنّها أصبحت تعاديها منذ الإطاحة بمحمد مرسي في 3 تموز/ يوليو 2013. مع ذلك لم تفكّر هذه الدول العربية الأربع في اتخاذ أيّ موقف ضد تركيا في سوريا، بل فعلت ذلك في ليبيا، علماً أنَّها جميعاً "دول سنية"، والأطراف الليبية التي تدعمها "سنية" أيضاً، وخلافاً للوضع الطائفي والعرقي في سوريا والعراق ولبنان، وعلاقة هذه الدول مع إيران الّتي عادتها أنقرة في البداية، ثم عادت ونسّقت معها في آستانا بناءً على طلب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
لم تمنع كلّ هذه التعقيدات الرئيس إردوغان من الاستمرار باهتماماته بالمنطقة العربية، مستغلًا خلافات الدول العربية، ومعظمها في خدمة "إسرائيل"، بعلم أو من دون علم، فأنقرة في القضية الفلسطينية تقف مع حماس ضد محمود عباس منذ أن طلبت، ومعها الدوحة، من خالد مشعل مغادرة سوريا أواخر العام 2011، وهي أيضاً مع الأطراف السنية والكردية في العراق لموازنة الدور الإيراني ما دامت تملك ورقة تركمان العراق والأذريين غرب إيران.
وتراهن أنقرة على التوازنات الحسّاسة في تونس والجزائر والمغرب، وتعتقد أنَّ هذه التوازنات بعناصرها الإخوانيَّة ستساعدها على محاصرة مصر التي لا تخفي قلقها من التحركات التركية في أفريقيا، والتي تستهدف المصالح المصرية، مع استمرار إردوغان في تبنّي قضايا جميع الإسلاميين في العالم، وخصوصاً المنطقة العربية.
أما الواقع العربي برمّته، فقد كان فرصة إردوغان الذهبية لتحقيق أهدافه في هذه المنطقة، وهو يعتقد أنَّ إسلامييها كانوا وما زالوا معه، وبخاصّة بعد ما حقّقه في سوريا والعراق، والآن في ليبيا، فقد اختلف مثقّفو المنطقة في ما بينهم حول الوصف والفهم والتقييم الدقيق لماهية السياسة التركية، كما اختلفوا حول ماهية العلاقة التركية- الروسية بانعكاساتها على سوريا والمنطقة العربية.
ففي وقت عدَّ البعض الدور التركي في المنطقة إيجابياً، قال آخرون إنَّه خطير على الأمن القومي للمنطقة العربية، لما لتركيا، وريثة الدولة العثمانية، من تاريخ وذكريات سيّئة مع شعوبها.
وجاء صراع المثقّفين العرب في ما بينهم حول مجمل القضايا القومية لصالح أنقرة التي تسعى إلى الاستفادة منها ما دامت تبعد الأنظار عن دورها ومشاريعها الإقليمية والدولية. فالإعلام السعودي والإماراتي والمصري الَّذي يهاجم إردوغان بسبب سياساته في سوريا وليبيا، لا يتراجع عن موقفه التقليدي في معاداة سوريا وإيران وحزب الله، وكأنه لسان حال "إسرائيل"، وهو حال الإعلام العربي ومثقّفيه المدفوع لهم سلفاً، والذين كانوا، وما زالوا، في خدمة العدو الأكبر: أميركا الإمبريالية، وهي أيضاً في خدمة الصهيونية العالمية.
ويستمرّ الخلاف بين المثقفين العرب المحسوبين على المقاومة والممانعة ما دام مفهوم العروبة وعلاقته بالقومية والدين والعلمانية وحقوق القوميات الأخرى لم يعد ضمن أولوياتهم، والبعض منهم يعيش أزمة الولاء للدول أو الأنظمة التي يعتقدون أنَّها نموذجهم الأمثل.
وبغياب الرؤية المشتركة لدى المثقَّفين وعلاقاتهم مع الأنظمة الحاكمة، لن يحالف الحظ الجميع للحديث عن صيغة سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وفكرية لمستقبل سوريا والعراق ولبنان وتونس، ولاحقاً اليمن وليبيا والجزائر ومصر، وهو ما يتطلَّب عملًا جاداً ومحترفاً واستراتيجياً من كلِّ المثقفين والطبقات السياسية يرتقي إلى مستوى مراكز الدراسات العالمية، بعيداً من العادات والتقاليد والعلاقات المريضة التي أثبتت فشلها، ليس سياسياً فحسب، بل اجتماعياً أيضاً.
على الجميع أن يعي أنه باستمرار هذه التناقضات وغياب الفكر العربي المشترك في الحد الأدنى من قواسمه المشتركة، فالحظّ لن يحالف الأمة العربية أو شعوبها ودولها لمعالجة أيٍّ من مشاكلها الداخلية أو العامة، وهي كثيرة جداً.
نجح الغرب دائماً في استغلال نقاط الضعف هذه، ما دام العربي لا يقرأ، وبات الآن لا يفهم أيضاً بعد أن أثقلت هموم الدنيا ومشاكلها، ليس كاهله فقط، بل عقله وعواطفه ووجدانه أيضاً، وهي الآن جميعاً أسيرة شبكات التواصل الاجتماعي؛ سلاح الغرب الأقوى لتدميرنا.
وقد انتبه الرئيس إردوغان إلى هذا الواقع العربي المتردّي، فأراد أن يملأ الفراغ الفكري والسياسي والأمني في المنطقة بعقيدته الإخوانية العاطفية الاستراتيجية التي ساعدته في اجتياح المنطقة برضا أهلها أو من دون ذلك، ما دام وريث الدولة العثمانية التي حكمتها 400 سنة.
ويعتقد إردوغان أيضاً، وبتفاصيل علاقاته مع كلٍّ من روسيا وأميركا، بانعكاسات ذلك على المكاسب التي حقّقها في سوريا والعراق، والآن في ليبيا، بأنه الأقوى في المنطقة ما دام متواجداً بقوة في سوريا، ولا يستطيع أحد أن يجبره على الخروج منها.
كما لم يستطع أحد في الغرب المراوغ منع السفن التركية التي دخلت المياه الإقليمية لقبرص، العضو في الاتحاد الأوربي، للتنقيب عن الغاز الذي سيكون قريباً عنصراً جديداً في أجندة الثقافة العربية السياسية. وبوضعها الحالي، لن تصحو على نفسها إلا بعد خراب بصرى وعودة السلطان سليم!