حرب الغاز التي لم تقع
كان يُمكن أن تُسمى "حرب تشرين الثانية" أو "حرب الغاز" لو وقعت، وكان من الصعب حصر مداها ومساحتها، لكن عدم حدوثها لا يلغي واقع أن "الطاولة" قد انقلبت فعلاً.
عندما هدّد أمين حزب الله السيد حسن نصر الله بـ"قلب الطاولة" على العالم في تموز/يوليو الماضي، كانت الطاولة قد انقلبت فعلاً. يمكن التيقّن من هذه النتيجة الآن، بعد التوصّل إلى توقيع التفاهم على الترسيم البحري بين لبنان و"دولة" الاحتلال. كما يُقال الأعمال بخواتيمها. رضخت "إسرائيل" في نهاية المطاف، وخلال المدة الزمنية التي حدّدها السيد نصر الله. تنازلت عن مطالب ظلت لسنوات تصرّ عليها انطلاقاً من قراءة، تبيّن أنها خاطئة، لموازين القوى والظروف الحاكمة ونيات حزب الله. لم يؤجَّل توقيع الاتفاق، ولم يؤخَّر إلى ما بعد الانتخابات التشريعية الإسرائيلية، كما كان يرغب الطرف الإسرائيلي. إملاء الشروط على لبنان طيلة سنوات لدفعه إلى القبول بما هو "متاح" أميركياً وإسرائيلياً انتهى إلى انقلاب المعادلة.
أفرز هذا الانقلاب مفاعيل استراتيجية سوف تستمر تداعياتها على مستوى الصراع مع "إسرائيل"، وأخرج إلى حيّز الميدان والإعلام مجموعة من المعطيات والنتائج.
لقد ثبت أولاً خطأ التقدير الإسرائيلي بأن حزب الله مردوع ومقيّد بالظروف الاقتصادية والمالية والاجتماعية التي يمرّ بها لبنان، الأمر الذي أشار إليه السيد نصر الله في خطابه الأخير، وكان قد حذّر مراراً من مغبة وقوع خطأ في التقدير لدى الطرف المعادي بهذا الشأن.
سوف ينعكس هذا الإنجاز بالضرورة على أي نقاش داخلي لبناني يتناول سلاح المقاومة، بعدما ثبت أن "الصواريخ بطعمي خبز" في الواقع العملي الملموس، وليس في الحيّز النظري، وهي الرسالة التي ختم فيها السيّد نصر الله خطابه يوم التاسع والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر 2022.
لم تكن المعركة في جوهرها محصورة بنزاع حدودي على مكامن حقول الغاز بين عدوّين. الجانب الآخر من نزاع الترسيم تمثّل بربط السماح للبنان بالتنقيب واستخراج الثروات البحرية بشروط وإملاءات أميركية تأتي امتداداً لمشروع حصار اقتصادي بدأ منذ عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب.
وفي هذا الإطار، كان السيد نصر الله قد حذر في تموز/يوليو 2020 الأميركيين بالقول: "سياستكم بخنق لبنان ستقوّي حزب الله وتضعف حلفاءكم ونفوذكم، ولن يجد الناس أمامهم ملاذاً إلا المقاومة وحلفاءها". كان هذا التصريح استشرافاً لمستقبل لم يتأخر قبل أن تظهر تبعاته بعد أقل من 3 أعوام من خلال تحقيق نصر جديد في معركة الغاز، وهو إنجاز يُضاف إلى مبادرات قام بها حزب الله لاستقدام النفط من إيران خلال الشتاء الماضي، والحصول على هبة إيرانية لتوليد الكهرباء في المعامل اللبنانية، في وقت لم يقم الطرف الحليف لمحور أميركا أو السعودية بأي مبادرة من شأنها التخفيف من عبء الانهيار على الشعب اللبناني، الأمر الذي من شأنه أن يُعزز منطق حزب الله وحُجته على مستوى النقاش السياسي الداخلي والخطاب السائد الذي يتابعه الرأي العام.
ربما من الجدير على هذا الصعيد العودة إلى تصريحات وأحداث جرت قبل اندلاع حراك 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019 في لبنان وبعده.
في حزيران/يونيو 2020، بعد توقيع "صفقة القرن"، وقبل أشهر قليلة من توقيع "اتفاقيات أبراهام"، ربط وزير الخارجية الأميركي السابق مايك بومبيو استعداد بلاده لدعم الحكومة اللبنانية بتنفيذ "إصلاحات حقيقية". لم تكن هذه "الإصلاحات" تحتاج إلى كثير من التحليل لفهم مغزاها، فقد غلّفها بومبيو بلغة دبلوماسية عندما أوضح في التصريح نفسه أن "واشنطن مستعدة لمساعدة لبنان إذا عملت الحكومة بطريقة لا تجعلها رهينة لحزب الله".
بومبيو كان قد زار لبنان في آذار/مارس 2019 محاولاً تأليب اللبنانيين على حزب الله، مهدداً بقطع المساعدات وفرض عقوبات. وكان مساعده لشؤون الشرق الأدنى ديفيد ساترفيلد مهّد لهذه الزيارة، إذ نقلت صحف لبنانية عن مطّلعين على أجواء محادثاته أنه طلب "الحدّ من تأثير حزب الله في السياسات الحكومية"، والإ فإن "أميركا ستستمر في الضغط والإزعاج في حال عدم التزام لبنان سياسة النأي بالنفس والابتعاد عن أي تمحور مع إيران، حتى لو أدى هذا الضغط إلى زعزعة الاستقرار اللبناني". بموازاة ذلك، كان الضخ الإعلامي "الثوري" والخارجي قد بدأ يركز على سردية سيطرة حزب الله على الدولة، فيما كان الهدف الفعلي للولايات المتحدة عزل المقاومة ومحاولة نزع الشرعية الرسمية والشعبية عنها.
بعد أشهر، وفي إثر اندلاع الاحتجاجات، أوصى السفير الأميركي السابق في بيروت جيفري فيلتمان في شهادة أمام لجنة الشؤون الخارجية التابعة لمجلس النواب الأميركي، في جلسة بعنوان "ما هو التالي للبنان؟ دراسة تداعيات الاحتجاجات الحالية"، بتوظيف الاحتجاجات من أجل تحريض الشعب والجيش اللبنانيين على حزب الله، في محاولة ابتزاز واضحة لربط الدعم الأميركي للجيش والدعم الدولي لاقتصاد لبنان بعزل الحزب ورفض سياساته داخل الحكومة، وخصوصاً المتعلقة بخيار المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي أو لجهة التحالف مع محور المقاومة في المنطقة.
ضمن هذا التوجّه، كتب عدد من الباحثين والصحافيين الأميركيين مقالات يحذّرون فيها من مغبة هذه السياسة. الصحافية لانشال فوهرا ذكرت في موقع "فورين بوليسي" أن إدارة ترامب تقوم من خلال هذا النهج بتقوية حزب الله، واعتبرت أن متابعة الولايات المتحدة هذه السياسة وفرض عقوبات جماعية منهكة على لبنان بسبب حزب الله ستكون نتيجتها عكس ما ترغب الإدارة الأميركية في تحقيقه.
وتحت عنوان "تدمير لبنان لإنقاذه"، حذّر مايكل يونغ في مركز كارنيغي بتاريخ حزيران/يونيو 2020 من خطة "مجنونة" يجري الإعداد لها في واشنطن من شأنها تدمير لبنان، مشيراً إلى أن العقوبات الجماعية على اللبنانيين ستسحب البساط من تحت أرجل من يعارضون حزب الله، إلى درجة أن الأخير ربما يخرج من هذه الدراما الزاحفة أكثر قوة.
أثبتت الأحداث اللاحقة وصولاً إلى المرحلة الراهنة وجاهة الآراء السابقة، لكن ما لم يكن متوقعاً على الأرجح أن تبلغ جرأة حزب الله درجة يهدّد فيها باستهداف وتعطيل منشآت "إسرائيل" البحرية، حتى لو أدى الأمر إلى التدحرج نحو حرب مفتوحة قال السيّد نصر الله إنها قد تتوسّع إلى حرب إقليمية إن وقعت.
مهما كانت الأوضاع التي آلت إليها الأمور حتى الآن، إلا أنها لم تنته بعد. سوف تستمر محاولات الأطراف المعادية للمقاومة إقليمياً ودولياً وإسرائيلياً بمشاغلة المقاومة واستهدافها من خلال أدوات أخرى، إلا أن نتائج الجولة الأخيرة التي أفضت إلى استرجاع حقوق لبنان ستبقى مستمرة بدورها بمفاعيل مستقبلية.
جلت معركة الغاز بوضوح مسار الانحدار في عمر كيان الاحتلال الافتراضي. كانت هذه المرة الأولى التي تبادر فيها المقاومة في لبنان إلى التهديد بالمبادرة ابتداء إلى خطوات عسكرية تعلم مسبقاً أن مسألة تطورها إلى حرب تنطوي على درجة عالية من الاحتمال تكاد تكون مؤكدة. ويمكن الاستدلال من خلال تجربة المقاومة الطويلة في لبنان على أن الخطوات غير المسبوقة تتحوّل لاحقاً إلى تموضع يعكس مرحلة جديدة ترتقي فيها المقاومة درجة في قواعد الاشتباك.
في هذا المسار، باتت مؤشرات الصراع عينية لدى الجمهور الإسرائيلي من جهة، والجمهور اللبناني والفلسطيني والعربي عموماً من جهة أخرى، بطريقة أكثر وضوحاً وسطوعاً مقارنة بالسابق. من مظاهرها، تأكل الردع الإسرائيلي، وانتزاع تنازلات إسرائيلية غير مسبوقة تحت التهديد بالقوة، وتحوّل نوعي في موازين القوى بالنظر إلى ما كشفت عنه المقاومة وما لم تكسف عنه، من دون أن يعني ذلك أن ترسانة "إسرائيل" العسكرية باتت منتهية الفعالية أو أن قدرتها على الأذى قد تقلّصت، إنما أصبحت مقيّدة أكثر من أي وقت مضى بتوازن الردع، وخصوصاً إذا أضفنا إلى العوامل السابقة عدم جاهزية جيشها وجبهتها الداخلية للحرب وضمور استعدادهما للتضحية. تبعاً لذلك، فإن ما سماه البعض في "إسرائيل" ابتزازاً مارسه حزب الله ضدّها، سيبقى واقعاً ماثلاً بالقوة، وقد يتحوّل إلى فعل في أي لحظة تنضج فيها ظروف وعوامل كالتي حصلت مع انتزاع لبنان لحقوقه البحرية بفعل التهديد والسلاح.
اللواء احتياط في "جيش" الاحتلال إسحاق بريك يعد من أكثر المؤهلين لتشخيص هذا الواقع معطوفاً على حالة الجيش الإسرائيلي. بحكم موقعه السابق مفوضاً للشكاوى في الجيش وقائداً للكليات العسكرية وقائد فيلق، فإن آراءه تكتسب طابعاً مهنياً موضوعياً. لا يكلّ الرجل من التحذير ودقّ ناقوس الخطر حول التهديد الوجودي الذي بات يحيق عملياً بالكيان، انطلاقاً من مؤشرات يراها خطرة.
يوم الجمعة الماضي (28 تشرين الأول/أكتوبر)، تحدث بريك في صحيفة "معاريف" عن ردع (إسرائيلي) من دون رصيد. أعاد حديثه المكرر مراراً حول عدم جاهزية "الجيش" الإسرائيلي والجبهة الداخلية لأي حرب، قائلاً إن القيادة العسكرية والدولة لامباليتان، وهما تعميان الجمهور وتقدّمان واقعاً وهمياً حول قدرات غير موجودة، مشيراً إلى أن الإعلام في أغلبه مجنّد والجمهور لامبالٍ.
وقدّم بريك مثالاً حياً عن حالة الصمت وإخفاء الحقيقة عن الجمهور الإسرائيلي من خلال الاتفاق الأخير مع لبنان، مدللاً على أن الوضع المتداعي للجيش الإسرائيلي إنما يجليه هذا الاتفاق "الذي تنازلت فيه إسرائيل عن كل المنطقة التي تساجلت عليها مع لبنان لنحو عقد".
يشرح بريك سبب انتصار لبنان من خلال ما يسميه المعضلة العويصة جداً التي مثُلت أمام صناع القرار في "إسرائيل": هل التعنت، على الأقل على جزء من منطقة النزاع البحرية، يمكن أن يؤدي إلى حرب مع حزب الله تجرّ دماراً رهيباً لـ"إسرائيل" وخسائر وأضراراً مادية في بنى تحتية استراتيجية، وبمعقولية عالية اندلاع حرب متعددة الساحات، أم الانكفاء والتنازل عن كل المنطقة البحرية المتنازع عليها من أجل منع حربٍ الجيش غير مستعدٍ لها؟
يتابع بريك: "يبدو لي أن كل من يقف أمام هذه المعضلة، وهذا ينطبق على أي رئيس حكومة، كان سيفضّل خيار التنازل على خيار دمار البلد، لأنه يعلم يقيناً أنه ليس للجيش الإسرائيلي استجابة عسكرية للحرب، لكونه أسير مفاهيم كارثية. هنا نصل إلى أوضاع ابتزاز ستكون من نصيبنا في المستقبل أيضاً".
مقال بريك هو واحد من عشرات المقالات في الصحف العبرية التي تدلّ على أن "إسرائيل" ما كانت ترغب في إتمام هذا الاتفاق وأُرغمت عليه، لكنّه يبقى أقل ضرراً عليها من وقوع الحرب. الإدارة الأميركية ما كانت أيضاً لتقرّ بذلك لولا جملة أسباب فصّلها السيّد نصر الله في خطابه الأخير، على رأسها انشغالها بالحرب الأوكرانية وتضرر إمدادات الطاقة إلى أوروبا.
ولكن خطورة ما حصل من منظور إسرائيلي لا تنحصر فقط بتضرر هيبتها وتأكل ردعها واضطرارها إلى التنازل من موقع الضعف. الخطر المؤجل والمنظور، الذي من الطبيعي أن تخشاه "إسرائيل"، هو المسار الذي شقّه لبنان بموازاة تطور إمكانات المقاومة كماً ونوعاً. تحوّله إلى دولة نفطية مع وجود مقاومة قادرة على حمايته سيحوّله بالضرورة إلى قوة إقليمية لها وزن مختلف. نظرياً، يعني ذلك أنه بات حاجة للخارج وللدول المستهلكة للغاز، وثروة تعزز سيادته وتزيد فرص تملصه من الوصاية والابتزاز، ومروحة من الخيارات في السياسات الاقتصادية وفي تحقيق الاكتفاء الذاتي في بعض المجالات.
من هذا المنطلق، يصحّ القول إن ما قبل الاتفاق ليس كما بعده. ولهذا السبب، لا يُتوقع أن تكون المعركة انتهت عند هذا الحد، فما أخذه لبنان بالقوة ستكون هناك محاولات للالتفاف عليه بطرق مختلفة، بعضها متصل بالداخل اللبناني وارتباطاته الخارجية، وبعضها الآخر بآليات الاستخراج وشبكات التوريد وتحالفات الغاز في المنطقة، وخصوصاً في ضوء التقارب الإسرائيلي التركي. وبموازاة ذلك، ستبقى أدوات الضغط الاقتصادية والمالية الأميركية ماثلة.
لهذه الأسباب، يبقى سلاح المقاومة ضرورياً لحماية الإنجاز وتثميره، ويبقى الضمانة الوحيدة، إلى جانب خطوات حمائية في الداخل تتطلب إبعاد ملف الغاز عن النهج التقليدي الذي درجت عليه السياسة اللبنانية في المحاصصة والهدر والفساد. يقول إسحاق بريك في مقاله: "من أجل التفاوض على مصالح سياسية واقتصادية، أنت بحاجة لأوراق قوية في يدك. إذا لم تكن لديك، ستصبح موضع ابتزاز في لحظة".