اللاجئون الأفغان في تركيا.. عسكر من؟
اكتسبت النقاشات وردود الفعل ضد الأفغان طابعاً يتباين عن حالة اللاجئين السوريين، لأن الأغلبية الساحقة من اللاجئين الأفغان، إن لم نقل كلهم، هم من الرجال فقط.
بعد عامين على هزيمة أميركا في أفغانستان وعودة "طالبان" إلى السلطة، لم يعد أحد يتحدّث عمّا يجري في البلد المسلم، الذي يعيش أحلك ظروفه السياسية والاجتماعية والثقافية، وحتى الدينية، بسبب سلوك "طالبان" المعروف. كما لم يعد أحد يتذكر أولئك الذين سقطوا من الطائرات الأميركية، التي غادرت مطار كابول، الذي احتشد فيه عشرات الآلاف من الأفغان الذين كانوا في خدمة الاحتلال الأميركي، الذي دام 20 عاماً، ومن دون أن يحقق أياً من أهدافه الاستراتيجية، وأهمها تضييق الحصار على إيران، عبر الحليف الاستراتيجي باكستان. ومع أن الانسحاب الأميركي من أفغانستان جاء نتيجةً للمفاوضات السرية، ولاحقاً العلنية، بين الطرفين، بوساطة الدوحة، التي تحتضن في أراضيها قاعدتي "العديد" و"السيلية"، اللتين احتل الأميركيون عبرهما أفغانستان والعراق، فلقد نجحت الإمارات في تحقيق مزيد من التقدم في علاقاتها بكابول، بعد أن وقّعت مع حكومة "طالبان" على اتفاقية تشغيل مطار كابول ومطارات أخرى في أفغانستان، وهو ما كان يسعى له الرئيس إردوغان بدعم قطري. ودفع ذلك إردوغان إلى التودّد إلى قيادات كابول، بحيث قال في 21 تموز/يوليو 2021، قبل أيام من سقوط كابول، إن "لا تناقض عقائدي بين تركيا وما تؤمن به طالبان.
ومن المحتمل أن نتفق معها، على نحو أوسع، خلال المرحلة المقبلة". كلام إردوغان، الذي أثار آنذاك ردود فعل واسعة، سياسياً وشعبياً، جاء في إطار محاولاته تحقيق مزيد من التنسيق والتعاون، سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، بين أنقرة و"طالبان"، بدعم من الحليف الاستراتيجي قطر، التي أرسل إردوغان جيشه إليها لمواجهة التهديدات السعودية والإماراتية والمصرية، في حزيران/يونيو 2017.
فشل مساعي الرئيس إردوغان من أجل تحقيق بعض المكاسب التكتيكية والاستراتيجية بشأن العلاقة بـ"طالبان" قد يكون السبب وراء استعجاله المصالحة مع حكاّم الإمارات والسعودية ومصر، بعد أن قال عنهم ما قاله خلال الأعوام الماضية. ودفع ذلك أيضاً الرئيس إردوغان إلى فتح أبواب تركيا على مصاريعها أمام اللاجئين الأفغان، الذين اجتازوا الحدود التركية في وضح النهار، ومن دون أيّ عرقلة من الجيش والأمن التركيين بعد أن قطعوا نحو ألفي كم، مروراً بالأراضي الإيرانية، وأحياناً الباكستانية.
وأثار هذا "الاجتياح" الأفغاني نقاشات حادة في الشارعين السياسي والشعبي، بحيث اتهمت المعارضة الرئيس إردوغان بإضاءة الضوء الأخضر لهؤلاء الأفغان بعد أن وصل عددهم إلى مئات الآلاف. وقال إردوغان، في أحد خطاباته، إنهم نحو 300 ألف.
واكتسبت النقاشات وردود الفعل ضد الأفغان طابعاً يتباين عن حالة اللاجئين السوريين، لأن الأغلبية الساحقة من اللاجئين الأفغان، إن لم نقل كلهم، هم من الرجال فقط، وتتراوح أعمارهم بين 20 و30 عاماً، ولا يحملون معهم إلا قليلاً جداً من احتياجاتهم الاساسية. ودفع ذلك مجموعة من أوساط المعارضة إلى التعبير عن قلقها من هذه الظاهرة، وعدّتها خطراً على الأمن الوطني والأمن القومي للدولة والأمة التركيين، أولاً بسبب الخلافات الجدية بين ثقافة المجتمع التركي والعادات والتقاليد والتصرفات والأخلاق للأفغان، الذين جاءوا إلى تركيا، وتوزَّعوا في مختلف مدنها، من دون أن يمنعهم أحد من ذلك.
وتحدثت أوساط المعارضة عن سيناريوهات سرية ومخيفة بشأن احتمالات، مفادها أن تكون قوى داخلية وخارجية جلبت هؤلاء الأفغان إلى تركيا، وأسكنتهم فيها، ولا يدري أحد من يعيلهم الآن. وبين هذه السيناريوهات أن تكون عصابات منظمة خلف عملية نقل الرجال الأفغان من بلادهم إلى تركيا، وتقديم كل التسهيلات والخدمات إليهم، إلى أن تقوم قوى خفية داخلية وخارجية بتبنيهم خدمةً لأجنداتها المستقبلية. وتتحدث المعلومات عن احتمال تدريب بعض هؤلاء في مخيمات سرية في مناطق نائية داخل تركيا، من أجل الاستفادة منهم في مهمّات مستقبلية، داخلية أو خارجية. ولا تُخفي المعارضة قلقها من احتمالات أن تكون شركة SADAT للخدمات العسكرية، وصاحبها كان مستشاراً للرئيس إردوغان، طرفاً في هذه القصة المرعبة، بالنسبة إلى الشارعين الشعبي والسياسي في تركيا، مع استمرار الحديث عن احتمالات الاستفادة من هؤلاء الأفغان في مهمات داخلية وخارجية، يُكلَّفون القيام بها من الشركة المذكورة، بل حتى من السلطات الحكومية التركية، كما هو الحال بالنسبة إلى ما يُسمى "الجيش الوطني السوري" المعارض، الذي تم تشكيله في أنقرة صيف عام 2019، وتم إرسال نحو 15 ألفاً من مسلحي الفصائل التابعة للجيش المذكور، مرتزقةً للقتال في ليبيا وأذربيجان.
في هذا الوقت، تتحدث المعارضة عن احتمالات، مفادها أن يكون للاستخبارات الأميركية واستخبارات دول أخرى دور في هذه القصة منذ بدايتها، مع احتمال أن يكون البعض من هؤلاء الأفغان تعاون مع الاحتلال الأميركي لأفغانستان خلال الأعوام الماضية، وتعهّدت واشنطن نقلهم إلى أميركا عبر تركيا، وهو ما تفعله الآن، على أن تستفيد منهم مستقبلاً مرتزقةً في مهمات خارجية في أفغانستان وجوارها، أو أماكن أخرى. وسبق أن فعلت ذلك مع نحو خمسة آلاف من البشمركة العراقية الموالية لمسعود البرزاني، والذين تم نقلهم من شمالي العراق إلى تركيا، ومنها إلى القواعد الأميركية المتعددة في المنطقة، بعد هزيمة العراق في حرب الكويت، وانفجار الوضع الأمني صيف عام 1996 بين البشمركة الموالية لمسعود البرزاني، المدعوم من الجيش العراقي، والقوات التركية والبشمركة الكردية الموالية لجلال الطالباني، من دون أن يدري أحد أين وكيف استخدمت واشنطن هذه العناصر خلال الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، أو في أماكن أخرى.
وتحدثت المعلومات آنذاك عن نشاط مكثف للموساد الإسرائيلي، الذي أرسل كثيرين من عناصره من ذوي الأصل العراقي إلى المنطقة، وتجوّلوا في المنطقة، وصالوا فيها، وخصوصاً في المناطق الحدودية مع إيران، تحت حماية قوات المطرقة الأميركية/البريطانية/الفرنسية، التي جاءت إلى تركيا صيف عام 1991 لحماية كرد العراق من أي هجوم للجيش العراقي، شمالي خط العرض 36. وتحدّثت المعلومات آنذاك عن نقل مئات من العائلات الكردية العراقية إلى الكيان الصهيوني بعد إقناعها بأن أصولها يهودية. وهو ما فعله "الموساد" قبل ذلك في الخمسينيات في العراق وعدد من الدول العربية، وخصوصاً روسيا، بهدف زيادة سكان الكيان الصهيوني.
في جميع الحالات، أياً تكن السيناريوهات والمعلومات، فقد بات واضحاً أن اللاجئين الأفغان، الآن ومستقبلاً، سيبقون حديث الشارع التركي، مهما تكن ارتباطاتهم الداخلية والخارجية، ما داموا ورقة مهمة في حسابات عدد من الدول وأجهزة استخباراتها، التي تتسابق فيما بينها إلى الاستفادة من هذه الورقة. ويعرف الجميع أنها مربحة ما دامت أفغانستان، عبر موقعها الاستراتيجي القريب من روسيا والمجاور لإيران، كانت ستبقى هكذا في مهب الرياح الإقليمية والدولية. وهذه هي حالها منذ أكثر من 45 عاماً على الأقل، مع التذكير بأن الاستخبارات الأميركية، باعتراف هيلاري كلينتون، بدعم من أنظمة الخليج وباكستان، هي التي أسست "طالبان" و"القاعدة"، وكانت وما زالت خلف "داعش" و"النصرة" وأمثالهما. وأثبتت هذه المجموعات، بمهارة عالية، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ولاءها للغرب الإمبريالي، الذي كان ومن معه من المتواطئين في المنطقة في خدمة الكيان الصهيوني. وكان ما يسمى "الربيع العربي"، الذي أدى إلى دمار المنطقة، آخر مثال على ذلك، بعد أن ساهم في تطبيع بعض الأنظمة العربية وأنقرة مع الكيان الصهيوني، الذي حقق اختراقه الأخير، في لقاء وزيرة الخارجية الليبية نجلاء المنقوش ونظيرها الإسرائيلي سراً في روما، بعلم رئيس الوزراء عبد الحميد الدبيبة، ثم لجوئها إلى تركيا.