إردوغان بين الدين والقومية.. من هو التركي؟
كان "التغلغل" الإسلامي في المؤسسة العسكرية التركية كفيلاً بإنهاء كلّ الرهانات الخاصة "بعلمانية" المؤسسة العسكرية التي سيطر عليها إردوغان بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في تموز/يوليو 2016.
تشهد تركيا منذ أيام نقاشاً مثيراً بدأ بالمهاترات التي بدأت بين العلمانيين والإسلاميين، واكتسب طابعاً جديداً بدخول الرئيس رجب طيب إردوغان على الخط، في محاولة منه للدفاع عن السلاطين العثمانيين، وبشكل خاص عبد الحميد.
في التاسع من أيلول/سبتمبر، شهدت مدينة إزمير تظاهرة شعبية حاشدة شارك فيها مئات الآلاف من المواطنين الذين احتفلوا بالذكرى المئوية لتحرير المدينة من الاحتلال اليوناني عام 1922، خلال حرب الاستقلال التي قادها مصطفى كمال أتاتورك وانتهت بقيام الجمهورية التركية في 29 تشرين الأول/أكتوبر.
أزعجت هذه التظاهرة أتباع إردوغان وأنصاره الذين شنوا هجوماً عنيفاً على المغني الشهير تاركان الذي أقام حفلاً غنائياً كبيراً بهذه المناسبة، واستهدفوا رئيس البلدية تونج صويار (من حزب الشعب الجمهوري) الَّذي اتهم السلطان وحيد الدين بالخيانة الوطنية عندما استسلم للقوات البريطانية التي احتلت إسطنبول، ثم غادرها على متن مدمرة بريطانية في تشرين الثاني/نوفمبر 1922، بذريعة أن حياته في خطر مع اقتراب دخول القوات الموالية لأتاتورك إلى إسطنبول.
أثارت أقوال رئيس البلدية نقاشاً واسعاً في الأوساط السياسية والإعلامية والشعبية بين مؤيد ومعترض، باعتبار "أنّ وحيد الدين لم يكن خائناً"، على عكس ادعاءات الطرف الآخر، وخصوصاً العلمانيين، الذين "حمّلوه وحمّلوا قبله السلطان عبد الحميد مسؤولية كلّ الهزائم التي تعرضت لها الدولة العثمانية قبل سقوطها بالكامل عام 1918"، بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى مع حليفتها ألمانيا.
واكتسب النقاش طابعاً مثيراً بعدما اكتسب طابعاً دينياً، وبالتالي قومياً، بعدما اتهمت بعض الأوساط وحيد الدين، وقبله عبد الحميد، بانتهاج سياسات معادية للأتراك، ومن منطلقات دينية شمولية، باعتبار أن السلاطين العثمانيين (البعض يقول أنْ لا علاقة لهم بالأتراك) كانوا يرون أنفسهم خلفاء على المسلمين.
دفع ذلك الرئيس إردوغان الذي يرى نفسه وريثاً للخلفاء والسلاطين إلى الدفاع عن وحيد الدين وعبد الحميد، من دون أن يبالي بالمغالطات التاريخية التي ارتكبها خلال دفاعه عنهما. وقد قال "إن وحيد الدين لم يكن خائناً، بل هو سلطان وطني وشريف، كما أن السلطان عبد الحميد دافع دفاعاً مستميتاً عن الدولة والأمة العثمانية، ولم يخسر ذرة من ترابها".
جاء الرد سريعاً على لسان المؤرخين والساسة الذين أثبتوا بالأرقام والتواريخ "أن الدولة العثمانية خلال حكم عبد الحميد الاستبدادي الذي استمر 33 عاماً خسرت مليوناً و600 ألف كم مربع من الأراضي التي كانت تسيطر عليها في أوروبا والبلقان والشرق الأوسط".
ونشرت شبكات التواصل الاجتماعي مقطع فيديو للمؤرخ مراد بارداكجي يتهم فيه "من ينكر هذه الحقيقة بالجهل والغباء". كان ذلك قبل عدة سنوات، وقبل أن يعينه إردوغان مستشاراً له في الأمور التاريخية، ويعيّن البروفيسور أرهان أفيونجي، وهو صديق بارداكيجي، رئيساً لجامعة الدفاع الوطني التي تشرف على الكليات الحربية، وهو أيضاً مختصّ بالتاريخ العثماني، وليس له علاقة من قريب أو بعيد بالأمور العسكرية، إلا أنه أدى دوراً مهماً في أسلمة المؤسسة العسكرية، ولا يزال، بعد طرد نحو 25 ألف ضابط من أتباع الداعية فتح الله غولن من هذه المؤسَّسة التي يقال عنها في تركيا إنها "خيمة الأنبياء، وكلّ فرد فيها هو محمد".
وكان هذا "التغلغل" الإسلامي داخل المؤسسة العسكرية كفيلاً بإنهاء كل الرهانات الخاصة "بعلمانية" المؤسسة العسكرية التي سيطر عليها الرئيس إردوغان بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في تموز/يوليو 2016.
كما كان "التغلغل الديني" داخل مؤسسات الدولة الأخرى سلاح إردوغان الآخر للسيطرة من خلال الجماعات والطرق والتكايا الدينية على هذه المؤسسات، التي تضمن له استمرار الدعم من قبل بعض القطاعات الشعبية، تارة بمقولات دينية وتارة قومية، وهو يدغدغ مشاعرها بحسب التطورات الداخلية والخارجية؛ فتارة يكون "تركياً قحاً"، وتارة أخرى يكون "عثمانياً أصيلاً".
وعندما يتحدث عن ذكريات السلطنة والخلافة العثمانية التي ألغاها مصطفى كمال أتاتورك في العامين 1922 و1924، فإنه يعتقد أنه قد يستطيع إحياءها بعد ما يُسمى بـ"الربيع العربي"، وهو ما يفسر كثرة المسلسلات التلفزيونية التي تتغنى بأمجاد السلاطين العثمانيين، وأهمهم أرطغرل، الذي جاء إلى الأناضول عام 1071، ثم محمد الفاتح الذي فتح القسطنطينية عام 1453، ثم عبد الحميد، الذي لا يعلم أحد سبب إعجاب إردوغان به.
في جميع الحالات، ومع اقتراب موعد الانتخابات المصيرية في أيار/مايو المقبل، بات واضحاً أن الشارع التركي، السياسي والشعبي، سيشهد نقاشات مثيرة بكلّ عناصرها التكتيكية والاستراتيجية التي يريد لها إردوغان أن تساعده للبقاء في السلطة، مهما كلفه ذلك مغالطات سياسية وتاريخية.
على الرّغم من دفاع إردوغان المستميت عن السلطان عبد الحميد، ومحاولة المسلسلات التلفزيونية تسويقه على أنه "كان هدفاً للمؤامرات الصهيونية والاستعمارية والإمبريالية والماسونية وعملائها"، فالمعارضة تتهم إردوغان بالسعي لتحالفات جديدة مع "تل أبيب" ومنظمات اللوبي اليهودي الأميركي والحركات الصهيونية، في محاولة منه لكسب ود واشنطن (الإمبريالية)، وتذكّر بشعاراته العثمانية عندما تبنى حركات الإسلام السياسي في المنطقة بعد ما يسمى بـ"الربيع العربي" الصهيو-أميركي، إلا أنه عاد وتخلى عنها (باستثناء سوريا وليبيا) وفق تكتيكاته الجديدة التي لم تغير سياساته في الداخل، على الرغم من كل تناقضاته التي لم يعد أحد يبالي بها، ما دام الشعب التركي يعاني أخطر أزماته الاقتصادية والمالية والمعيشية التي أفقدت الناس وعيهم القومي والديني، باستثناء أولئك الّذين ما زالوا يصدّقون إردوغان، مهما فعل ومهما قال، ثم تراجع عن قوله.