وفاة ألكسي نافالني والتباكي الغربي على الديمقراطية في روسيا
لماذا أقام الغرب الدنيا وأقعدها متباكياً على موت شخص واحد اسمه نافالني، وتغافل وصمت عن استشهاد ثلاثين ألف فلسطيني على أيدي قوات الاحتلال الصهيوني في قطاع غزة؟
أعلنت دائرة السجون الفيدرالية وفاة المعارض الليبرالي أليكسي نافالني في السجن، بعد تعرضه لِوَعْكَةٍ صحيةٍ مفاجئةٍ بعد عودته إلى الزنزانة من فسحة دورية، مؤكدة أن التحقيقات جارية من طرف السلطات المختصة لمعرفة الظروف والملابسات لأسباب الوفاة.
إلى هنا تبدو الأمور عادية، لكن الذي ليس عادياً هو ردود فعل الدول الغربية المتسمة بالتسرع والتشنج، والتي أبانت عنها بشأن وفاة نافالني والتباكي على الديمقراطية الموؤودة بحسب تصريحاتها، عبر إدانة روسيا، عادّةً إياها جريمة قتل يتحمل وِزْرَهًا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، حتى قبل صدور نتائج التحقيق من طرف السلطات الروسية، الأمر الذي يفسر حالة اليأس والإحباط الذي وصل إليه الغرب في صراعه مع موسكو.
لا شك في أن وفاة المعارض الليبرالي ألكسي نافالني شكلت ضربة موجعة للأحلام الغربية، الرامية إلى عودة الليبراليين إلى السلطة في روسيا، كما كانت الحال أيام الرئيس الراحل بوريس يلتسين، حتى تعود روسيا ضعيفة وتابعة للغرب باسم قيم الحرية والديمقراطية ودولة المؤسسات المزعومة، لذلك عمل على تمويل ما سُمّي منظمات المجتمع المدني الروسية بكل الوسائل في محاولة لزعزعة استقرار روسيا، ولإشعال ثورات ملونة تفضي إلى إسقاط حكم الرئيس فلاديمير بوتين، وهو ما حدا بالسلطات الروسية إلى حظر نشاط هذه المنظمات.
لم يكن ألكسي نافالني سوى دمية - مثل خوان غوايدو في فنزويلا - كان يعدّها الغرب ربما لحكم روسيا مستقبلاً عندما تتاح الفرصة لذلك، مثل أسلافه الليبراليين بقيادة يلتسين، والذين حكموا روسيا بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، رافعين شعار الديمقراطية الليبرالية والتعددية الحزبية وتداول السلطة، والانتقال إلى الاقتصاد الحر، الذي سيجلب الرفاهية للمواطنين الروس، وغيرها من الشعارات الرّنانة، لكن سرعان ما انقلبوا عليها، وتحولوا إلى الاستبدادية والديكتاتورية كما سيتبين لاحقاً.
تعود بنا الذاكرة إلى التسعينيات من القرن الماضي، في خِضَمِّ الخلافات الحادة التي نشبت بين الرئيس الراحل بوريس يلتسين المدعوم من الغرب، ومؤتمر نواب الشعب بقيادة رئيس البرلمان روسلان حاسبولاتوف، ونائب الرئيس ألكسندر روتسكوي، على خلفية الإجراءات الليبرالية الاقتصادية الراديكالية، والتي لم تستفد منها سوى حفنة من الأوليغارشيين مثل فلاديمير بوتانين، بوريس بيريزوفسكي، ميخائيل خودوركوفسكي، ألكسندر سموليسكي، ميخائيل فريدمان وآخرين، بحيث سعى كل منهما لإقصاء الأخر، في إثرها أصدر يلتسين، في الحادي والعشرين من أيلول/سبتمبر 1993، مرسوماً رئاسياً يحمل الرقم 1400، تمّ بموجبه حل مؤتمر نواب الشعب، ومجلس السوفيات الأعلى، وإيقاف العمل بدستور عام 1978، قبل أن يأمر بقصف مبنى البرلمان بالدبابات بعد أن قطع عنه الماء والكهرباء، وهو ما أسفر عن سقوط نحو 141 قتيلاً، بحسب التقديرات الرسمية.
مع ذلك، بارك الغرب مجزرة البرلمان التي قام بها يلتسين وحاشيته من عتاة الليبرالية الديمقراطية الروسية، بزعم محاربتهم فلول الشيوعية، ومَنْعِهِمْ من العودة إلى حكم روسيا، على رغم أن أعضاء البرلمان لم يكونوا كلهم شيوعيين، كما ادَّعَوا، وإنما كانوا خليطاً من القوميين والقوميين المتشددين. بعدها، قام بتأسيس دستور جديد عبر استفتاء في كانون الأول/ديسمبر 1993، منحه سلطات واسعة قصوى أكثر من سلطات البرلمان الذي بدّله بالمجلس الأعلى للبرلمان ومجلس الدوما، معيداً بذلك زمن القيصر الروسي نيكولاي الثاني الذي أَسَّسَهُمَا بعد الثورة الروسية الأولى في عام 1905.
في هذا الصدد، يقول ألكسندر كورساكوف، رئيس الحرس الشخصي للرئيس يلتسين، في كتابه "بوريس يلتسين الصعود والأفول"، إن الأخير خاطب الشيوعيين بقوله "لا تمزحوا معنا لأننا لن نسلمكم السلطة. لقد حكمتم البلاد سبعين عاماً، لهذا دعونا نحكم سبعين عاماً أخرى. وفي حالة فشلنا سَنُرْجِعُ إليكم الحكم"؛ بمعنى آخر: حتى لو فزتم في الانتخابات فلن أسلمكم السلطة ولن أعترف بفوزكم. وهنا تتبين الطريقة الترامبية - نسبة إلى دونالد ترامب - التي كان يفكر عبرها بوريس يلتسين الديمقراطي وحاشيته. فلماذا لم يعاقبهما الغرب على أفعالهما، أو على الأقل لم يندد بها؟
إذا تأملنا سلوك الغرب نجد أن مفردات الديمقراطية وحقوق الإنسان لا توجد في قاموسه إلا عندما يتعلق الأمر بتعارض مصالحه مع الدول التي تعارض سياساته ومخططاته، ومن ضمنها روسيا. أما مع حلفائه، فهو لا يلتفت إليها ولا يعيرها أي اهتمام. وهنا يظهر مدى النفاق وازدواجية المعايير اللذين يمارسهما الغرب في التعامل مع قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم.
كما أن الغرب ظل مسيطراً على مفاصل الدولة الروسية طوال حقبة الرئيس يلتسين، فلا تكاد تخلو وزارة من وزارات الدولة الروسية من مستشارين غربيين بدعوى التحديث، بمعنى أن روسيا تحولت في تلك الفترة إلى ضيعة غربية يرتع فيها الغرب كيفما يشاء، إلى أن أتى الرئيس فلاديمير بوتين الذي أنهى وجودهم في المؤسسات العمومية الروسية، كونهم خطرا على الأمن القومي الروسي.
لقد جرب الروس حكم الليبراليين مدة سبعة أعوام، ذاقوا خلالها الفقر المدقع وعدم الأمن بسبب سيطرة المافيات الإجرامية، حتى مجيء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى الحكم، والذي أعاد إلى المواطن الروسي أهميته، أمنياً ومعيشياً، وساهم في تقزيم دور أقطاب الأوليغارشية المالية في الحياة السياسية، بعد أن حاولوا في البداية وضع العصا في عجلة إصلاحات بوتين، التي شملت كل الميادين الاقتصادية، والسياسية، والعسكرية، والإدارية، وهو ما أتاح لروسيا العودة بقوة إلى الساحة الدولية، الأمر الذي لم يرُق للغرب.
إن التباكي الغربي على الديمقراطية في روسيا، بعد وفاة ألكسي نافالني، مرده سياسة روسيا الاتحادية المستقلة عن الغرب، وتحديها له، فلو كانت روسيا تدور في الفلك الغربي وتأتمر بأوامره لما سمع أحد عن الكسي نافالني، أو غيره من المعارضين الليبراليين الروس.
في الختام، يبقى السؤال الأهم: لماذا أقام الغرب الدنيا وأقعدها متباكياً على موت شخص واحد اسمه نافالني، وتغافل وصمت عن استشهاد ثلاثين ألف فلسطيني على أيدي قوات الاحتلال الصهيوني في قطاع غزة، بل منع حتى حق التظاهر ضد الكيان الصهيوني، مهددا المتظاهرين بالمتابعة القضائية؟ تلك هي ديمقراطية الغرب المنافقة يا سادة.