هل يعلم الأميركي والأوروبي أن روسيا لو أرادت الحرب لانتصرت فيها

الخطأ الأميركي هو استخدام دول الاتحاد الأوروبي كرأس حربة في مواجهة مع روسيا على مبدأ الحرب بالوكالة مناصفة مع أوكرانيا، وهي المايسترو المتفرج، والذي يظن نفسه يكسب الجمهور كله.

  • بوتين هو العاقل، ولا يريد المخاطرة بمصير العالم، فهل يتعقلون!
    بوتين هو العاقل، ولا يريد المخاطرة بمصير العالم، فهل يتعقلون!

تستمر الولايات المتحدة باتباع سياسة رعناء تذهب بالعالم إلى المجهول، ولا يزال الروسي يتعامل بحكمة وبهدوء، رغم عواصف الاستفزاز بأنواعها كافة. تشهد كل لحظةٍ تمرّ عملية تصعيد من قبل الولايات المتحدة ودول الغرب، وتحديداً بريطانيا، التي قال رئيس وزرائها الذي يقف على أبواب خسارة منصبه في وقت قريب جداً، بوريس جونسون، إن روسيا سوف تخسر كثيراً في حال تطبيق حزمة العقوبات المعدّة لها، بما فيها حرمانها وحرمان رجال الأعمال وأصحاب رؤوس الأموال الروس في روسيا وبريطانيا من الحصول على الدولار، لكن هل يعي جونسون، ومعه الكثيرون في العالم، أنّ أيّ حصار اقتصادي أو ضغط أكثر من اللازم على روسيا يمكنها معه الرد بما لا يحتمل والانتصار، ومن دون اللجوء إلى أيّ حرب. 

زبيغنيو بريجينسكي، مستشار الأمن القومي في إدارة الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر، قال في يوم من الأيام وهو يلعب الشطرنج: "لا بد من أن نعلم جيداً وضع الأعداء وموقفهم. أما في ما يخص روسيا، فإنَّ الضلع الأهم لبقائها من عدمه هو أوكرانيا، وإذا أضاعت روسيا أوكرانيا فهي ستضيع".

من هنا، توضح الصورة أن كل ما يجري الآن من ضغط ومحاولة لخنق روسيا وحصارها، وغزّ السكين الأكبر في خاصرتها عبر أوكرانيا، كان مخططاً له ومحسوباً لدى جميع الإدارات الأميركية ومن معها من قوى تحالف غربي. وما خروج الولايات المتحدة متحمّلة نتائج محرجة وهي تجرّ ذيول هزيمتها خلفها، وترك سلاح وعتاد عسكري بما يزيد على 8 مليارات دولار في أفغانستان سوى جزء لا يتجزأ من الإعداد لما يجري اليوم؛ فوفق الخطة، كان من المفترض البدء من لحظة الخروج من أفغانستان، وخلال مدة شهرين بالضبط، بمحاصرة روسيا، وكل ما جرى من محاولات في المحيط الجيوسياسي الروسي في وقت سابق، سواء في جورجيا في العام 2008 أو في ما بعد، في تسعير الأوضاع في ناغورنو كاراباخ بين أرمينيا وأذربيجان، وأحداث قرغيزستان، وما لحق بها حديثاً من محاولات في كازاخستان، وصولاً إلى أوكرانيا، ما هو إلا ضمن الخطة القديمة المجدّدة لإطاحة روسيا.

لكنْ، وبعيداً عن السَّرد، المهم هنا يكمن في كنه هذه المعمعة غير المدروسة الجوانب والعواقب على كلِّ العالم، إذا أرادت روسيا أن تذهب عكس السير وفق مصلحتها فقط، إذ إنها وصلت من الناحية العسكرية التقنية في صناعاتها الدفاعية إلى درجة غير مسبوقة في القوة الجو-فضائية والبحرية والبرية، بما فيها الصواريخ النووية والفرط الصوتية والحرب الإلكترونية والسيبرانية التي سبقت فيها الصين والولايات المتحدة معاً وغيرهما من دول العالم.

لن ندخل هنا في تعداد مسمّيات هذه الأسلحة، لأنَّ التفصيل طويل، وبات أهم عناوينه معروفاً للعالم أجمع، ولم يُخفِها الروسي أو يُخفِ بعضها. المهم أنَّ ما يجب أن يُعرف بات معلوماً، والمناورات النووية التي أجرتها روسيا بإشراف شخصي من الرئيس بوتين مؤخراً كانت رسالة واضحة مفادها: "إن كنتم تريدون حشر أنوفكم أكثر من ذلك، وأن تتعدّوا الخطوط الحمر، فسوف تلقون الجواب القاسي".

في الحقيقة، لم تعد القدرات العسكرية والاقتصادية هي الركائز الأساسية في الوقت الحالي لإيجاد حلول، بل إنّ الإرادة السياسية هي الأهم من كلِّ شيء الآن لإيجاد مخارج وحلول. وقد قال نابليون في زمنه إن الجغرافيا هي التي تحدد مصير أي دولة. وهنا نرجع إلى التذكير بما قاله بريجينسكي عن أوكرانيا وأهميتها في بقاء روسيا قوية أو إضعافها.

لقد سمّم الغرب أفكار الشعب الأوكراني على مدى هذه السنوات، وصوّر له أنه بمجرّد قبول أوكرانيا في الاتحاد الأوروبي والانضمام إلى حلف الناتو، سوف تتغير حياته إلى أفضل ما يمكن أن يحلم به البشر، ولكن هذا غير صحيح، ولن يتحقق أبداً، لأن الغرب والولايات المتحدة هما من يعترفان في أروقتهما السرية بأن لا حاجة لهما بأوكرانيا، فهما يقولان إنَّ لدينا بولندا وصربيا وبلغاريا وغيرها من دول البلطيق وشرق أوروبا، وهذه الدول تكفينا، كما أن هذه المواجهة عبء علينا في الأساس.

هكذا ينظر الأميركيون والغربيون إلى هذه الدول الَّتي انضمَّت إليهم وتركت مجالها الحيوي والجيوسياسي للتلاعب الغربي، لتحقيق أهداف ومصالح على حساب هذه الدول وشعوبها، لجهة مصالح الغرب، ولم يتغيّر شيء يُذكر نحو الأفضل لهذه الدول بعد انضمامها إلى الناتو سوى بعض الدعاية البعيدة عن الواقع.

الأهم من ذلك، لم يدخل في حساب الغرب والأميركيين موقف الليبراليين في روسيا. الليبراليون الذين أملوا الصداقة مع الغرب، هم الآن متفاجئون منه، ولم يبقَ سوى عدد قليل منهم يرى في هذا الغرب صديقاً جيداً. في الحقيقة، لا أحد ضد الغرب، ولكن الجميع باتوا ضد غباء السياسات الغربية غير المعقولة والمشوّهة، شكلاً ومضموناً. والخطأ الآخر عند هذا الغرب هو في أنه يرى روسيا فقط في شخص الرئيس بوتين، فهم لا يعرفون، في الحقيقة، بنية الدولة الروسية الحديثة، ولا يعلمون، رغم كل قوة استخباراتهم، شيئاً في الجيوبوليتيك والسياسة، ولن تفيد دول الغرب المظلة الأميركية التي ينفق عليها الأميركي ما يزيد على 750 مليار دولار يريد أن تدفعها له بطريقته، ووقتما يحب، وكيفما يحب، من دون الاكتراث إلى مصالحها أصلاً وإلى مستقبلها، كي تبقى رهينة له.

نأتي هنا إلى الثروات الطبيعية والباطنية والمعدنية في الدولة الروسية، فجزء كبير من المعادن الثمينة والمواد الخام المهمة لأدقّ الصناعات التكنولوجية في العالم مصدره روسيا، وبنسب عالية على المستوى العالمي، فالتيتان الروسي وحده يغطي ما يفوق 70% من حاجة السوق العالمية، وخصوصاً الصناعات الحربية، كالطائرات الحربية، وأيضاً المدنية، والمنتجات أخرى يحتاج إليها الناس. وفي حال اتفقت الصين مع روسيا، فسوف تنسف سوق هذه الصناعات، ولا سيّما الإلكترونية، في العالم، فماذا ستفعل أميركا ودول الغرب حينها؟

هنا، نفرض جدلاً أن هذه الدول استطاعت أن تجد حلاً للنفط والمنتجات النفطية والغاز لأوروبا عوضاً عن روسيا، علماً بأنه في هذه الفترة، وخلال أيام قليلة، ارتفع سعر برميل النفط من 65 دولاراً إلى 100 دولار، وقد يصل إلى 175 دولاراً، ومن المتوقع أن يصل سعر الغاز الأوروبي إلى 250 دولاراً، بحسب الخبراء، وهذا في مصلحة روسيا أصلاً، في وقت يرتفع سعر ليتر البنزين في الولايات المتحدة إلى دولارين، وهو ما لم يعتدهُ الأميركي أبداً، ولن يغطي ثراءه الحالي الآني على حساب الغاز المسال، وماذا لو أغلقت روسيا أجواءها أمام حركة النقل الجوي؟ من الخاسر الأكبر هنا اقتصادياً؟ هل سيكون الغرب أو روسيا؟

نأتي إلى المنتجات والمحاصيل الزراعية المطلوبة لكل دول العالم، وخصوصاً في الشرق الأوسط، إذ إنَّ روسيا وأوكرانيا يصدران معاً 29% من القمح العالمي، والحرب سوف تزيد من أسعار الحبوب، وخصوصاً على دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إذ إنَّ حوالى 40% من القمح والذرة تذهب إلى الشرق الأوسط الذي سيتألم أكثر إذا وقعت الحرب. وبالتالي، إن الأمن الغذائي في العالم كله سيكون في خطر، هذا عدا عن الحبوب الأخرى، وخصوصاً تلك التي يُصنع منها الزيت، فالصورة موحشة ومفزعة، لا لروسيا، بل للعالم كله. 

من هنا، نرى أن هذه الحرب ليست ضد روسيا وأوكرانيا بقدر ما هي ضد العالم كله، لما يمكن أن يترتب عليها، إذا وقعت، من نتائج كارثية، وسوف تنهار وتتوقف مشاريع اقتصادية كبيرة، أول الخاسرين فيها هي أوكرانيا التي كانت تُقام فيها مشاريع كثيرة إقليمية وعالمية، بما فيها دول الشرق الأوسط. على سبيل المثال، كان هناك مشاريع ضخمة لشركة "ميناء دبي العالمية" وشركات قطرية، وحتى دول خليجية أخرى. وقد توقفت كلها بسبب الخوف من الحرب، عدا عن محاولات الولايات المتحدة وضع هذه الدول في مواجهة روسيا بخصوص الغاز مثلاً، إذ حاول بايدن من خلال إعلان قطر حليفاً أساسياً في الشرق الأوسط للولايات المتحدة ولأوروبا تحويل الغاز القطري من الصين إلى أوروبا، وكذلك الأمر في ما يخصّ خط الغاز العربي، هذه كلها خسارات لهذه الدول. 

وكما نعلم، تطورت علاقات قطر خلال العامين المنصرمين بشكل كبير جداً مع روسيا. وكانت العام الماضي ضيف شرف في مؤتمر سانت بطرسبورغ الاقتصادي، وكانت هناك مشاريع ضخمة، توقفت كلها أو ستتوقف بسبب هذه السياسة التفريقية الأميركية. 

إذاً، بدت تأثيرات هذه الحرب غير هيّنة، وطفت على السطح بمجرد التجييش والحرب الإعلامية والتخويف والترهيب من وقوعها، فكيف إذا وقعت فعلاً لا سمح الله! سيدخل العالم في دوامة الأزمات والجوع والفقر والحروب، بما لا يمكن استدراكه بعقود خاصة، في ظلِّ أوضاع وبائية وصحية عالمية خارجة عن السيطرة حتى الآن.

الوضع خطر وصعب، ويبدو أنه يتعين على القيادة الروسية اتخاذ قرار حازم خلال وقت قريب جداً، لأن التأخير لن يفيد شيئاً، والغرب والأميركي ما زالا على إصرارهما بوهم الحرب، وهذا سيجعل روسيا نفسها في وضع غير هادئ، وقد تتطور الأمور إلى ما لم ينتظره أو يتوقعه أحد، على الرغم من أن كل هذا في حسبان القيادة الروسية، لكن من كان بها عالماً يرى أن التوقيت في التصرف، وبشكل حازم، هو الأهم، وهنا يُقصد بذلك الإرادة السياسية.

قد يكون من غير المفيد التذكير الآن ببعض الإجراءات التي يبدو كأنها كانت قد تفيد في مثل هذه الظروف لو تنبّه إليها الروسي، أو قد يعتبرها بعض الخبراء، بمن فيهم خبراء روس، ضرورية. في وقت سابق على سبيل المثال، كان من المفروض أن لا يؤتمن جانب الغرب والأميركي، وكان لا بد من الحفاظ على القواعد العسكرية الروسية في فيتنام وكوبا وعدم إغلاقها، وأن تكون اتفاقية مينسك بشكل مغاير عمّا هي عليه حالياً، لكون روسيا هي من طرح مجمل مضمونها ووقّعت عليها لمصلحة الدولة الأوكرانية، وللحفاظ على كيانها، في وقت يقول البعض: نعم، نحن وجزء كبير من الأوكران إخوة، لكوننا سلافيين، والأوكران الأصليون ليسوا سلافيين، والسلافيون الموجودين في أوكرانيا هم سكان المناطق التي ضمّتها روسيا إلى أوكرانيا في حقبة الاتحاد السوفياتي، وهي 10 أقاليم، وكان حريّاً بالروس بعد انهيار الاتحاد السوفياتي أن يعيدوا ضمّها، وخصوصاً أن دول الغرب تعترف بذلك منذ 30 عاماً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، بما فيها شبه جزيرة القرم التي أهداها خروتشوف في العام 1954 لأوكرانيا.

ومن هنا، في المقلب الآخر، يبدو أن الروسي سيذهب مع الحليف السوري نحو تدعيم وجوده العسكري التقني في المنطقة. وقد يحدث أن يتم توقيع اتفاقات جديدة في هذا الخصوص، وخصوصاً في الظروف الحالية، في ظل أهمية سوريا بموقعها الجيوسياسي وتقاطع المصالح والتحالفات الإقليمية والدولية وزيارة وزير الدفاع شويغو لسوريا في هذا الظرف الحساس، ووضع الرئيس الأسد بصورة تطورات الوضع حول أوكرانيا وإشرافه على المناورات البحرية الضخمة والمجهّزة بأحدث المعدات والتقنيات العسكرية الروسية الحديثة، ومن حيث عدد المشاركين من الجنود والضباط في المياه الإقليمية السورية على مرأى من السفن البحرية الغربية في مياه البحر الأبيض المتوسط، وزيارة وزير الخارجية السوري الدكتور فيصل المقداد لموسكو في هذا الظرف الدقيق، وما جاء على لسانه من تصريحات ورسائل دقيقة ومهمة جداً للداخل والمحيط وللصديق والعدو لها دلالات كثيرة ورسائل إلى الإقليم وإلى الحلف الغربي، وتحديداً إلى تركيا و"إسرائيل" اللتين تلعبان بالنار في إعاقة الدور الروسي، سواء في سوريا أم في محيطها الجيوسياسي، وناغورنو كاراباخ مثال واضح، ودونباس التي لم تسلم منها مسيّرات بيرقدار، والعدّ والشرح يطولان عن هذه المضايقات غير المبرّرة، والتي لا تستحقها روسيا لكونها تحترم هؤلاء الأطراف وتسايرهم وتحترم مصالحهم في أي مكان وُجدوا معها فيه، بحكم المصالح أو الجغرافيا، وهذا ما أكده وزير الخارجية الإسرائيلي يائير لابيد إذ قال: "في حال اندلعت الحرب بين روسيا وأوكرانيا، فمن الطبيعي أن ننحاز إلى حليفنا التقليدي الولايات المتحدة، على الرغم من الاهتمام بالحفاظ على علاقات جيدة مع الروس". لقد ارتكبت الولايات المتحدة خطأً تاريخياً في دخولها حرباً اقتصادية مع الصين التي تزحف شرقاً وغرباً، وفي أفريقيا وآسيا الوسطى ودول أميركا اللاتينية والوسطى، وهي التي اشترت عدداً كبيراً من الموانئ في الدول الغربية.

 هنا نذكر فقط أنَّ سوريا محطة مركزية وعقدة وصل محورية في مشروع طريق الحرير الصيني، ولو تسنّى للصيني أن يكون الآن مكان الروسي بهذا الشكل الوازن في سوريا لما تأخَّر لحظة، وهذا يكفي لنفهم أهمية ومحورية سوريا في الصراع القائم والتوازنات الإقليمية المستجدة في طريق تشكل بنية النظام العالمي الجديد.

الخطأ الأميركي الآخر هو استخدام دول الاتحاد الأوروبي كرأس حربة في مواجهة مع روسيا على مبدأ الحرب بالوكالة مناصفة مع أوكرانيا، وهي المايسترو المتفرج، والذي يظن نفسه يكسب الجمهور كله. في الحقيقة، قد يكون فعلاً مصير العالم والتغيير الكبير الذي تحدث عنه رئيس الوزراء البريطاني، ولو أنه لم يعنِه بالضبط، لعنى شيئاً آخر يهم أميركا ولندن، وفي الجهة المقابلة هذا ما فهمه الألماني، وأن هذا التغيير يمكن أن يحدثه تفاهم وتحالف استراتيجي ألماني روسي، لأنه بمجرد التحالف الاستراتيجي بين روسيا وألمانيا والبدء بتشغيل خط السيل الشمالي 2، لن تعود ألمانيا ولا دول الاتحاد الأوروبي بحاجة إلى الحماية الأميركية، ولا إلى قواعدها ولا إلى جنودها وصواريخها ودولاراتها وتمثيليات منع روسيا من الاعتداء على أوروبا، كما يزعم الأميركي، ولا حتى يمكن أن يكون هناك داعٍ لبقاء حلف الناتو.

وهنا، نعود إلى التذكير بمحاولة إعادة إحياء الرئيس الفرنسي ماكرون لفكرة إنشاء جيش أوروبي مستقل، ما أثار غضب الأميركي الذي أصلاً سمح لنفسه مع الأسترالي والبريطاني بأن ينشئوا تحالف "أوكوس"، ضد من أصلاً؟ لا أحد يقدر على شرح ذلك بدقة، غريب أمر هذا الأميركي.

 الأكثر من ذلك، قد لا تعود هنا حاجة إلى الدولار الذي هدّد جونسون روسيا بمنعها من الحصول عليه بالتعاون مع الأميركي، إذ إنه يمكن للطرفين الروسي والألماني ومن يقبل بالانضمام إليهما بحكم المصالح القومية التعامل بالعملات المحلية البينية، فما نفع الدولار والحاجة إليه حينها؟ وهذا ما يرعب الأميركي، وهو يتراقص على حافة هاوية اقتصاده الذي وصل التضخم فيه إلى 7.4%، ومعه شريكه البريطاني الذي وصل التضخم عنده إلى 5,4%، بحسب بعض التقديرات والدراسات، وهي في تقلّب متسارع نحو الأسوأ، عدا عن الأزمات الداخلية السياسية والصحية في ظل وباء كورونا، والتي تهدد زعيمي البلدين في مصيريهما السياسيين.

 إذاً، "نورد ستريم 2" هو بوابة آسيا وروسيا وأوروبا بعضهم على بعض بمعزل عن الأميركي، وبشكل مباشر، وقد يكون هذا التحالف بالفعل الضربة القاضية للنظام العالمي الحالي والإعلان عن ولادة نظام عالمي جديد، تذهب فيه أحادية القطب إلى غير رجعة. وهنا سنرى كيف أن بايدن وهو على أبواب الانتخابات النصفية في أيلول/سبتمبر المقبل، وجونسون رفيقه الذي لم يبقَ من عمر بقائه في السلطة أكثر من شهرين، كيف سيحميان نفسهما ويكفيان ماء وجهيهما؟ سيكون الأمر صعباً عليهما. ومن هنا، يمكن أن نتخوف من شؤم خيار الحرب الذي قد يسوقان العالم إليه. زد على ذلك كارثة نجاح مشروع طريق الحرير على الولايات المتحدة، لكونها لا تريد التعاون أصلاً.

في المحصلة وفي الواقع، الولايات المتحدة لن تكون يوماً على اتفاق مع روسيا، فهذا لا يناسبها، بالرغم من التوصل إلى تفاهمات على مستويات مختلفة من الرسميين والخبراء في كثير من القضايا الإقليمية والعالمية. في ظل الظرف الحالي، هما يمكن أن يتوافقا فقط، ولا يمكن أن يتفقا، علماً بأن المشكلة ليست في روسيا، بل لدى الديمقراطيين والجمهوريين على حد سواء، لكونهما لا يشكلان هدية لروسيا والعالم، وإنما الفرق في ما بين الحزبين يكمن في أن عدد الأغبياء في الحزب الجمهوري أو الديمقراطي أكثر، أو بالأحرى عدد الأغبياء النافعين، كما يقول أحد المخضرمين السياسيين الروس أكبر. ومن هنا كانت روسيا تدعم ترامب وتتعامل معه، لا من باب المحبة، بل لأن الرئيس ترامب خدم روسيا في قضايا مهمة جداً، ورفع عن كاهلها عناء التعب والجهد والتخطيط والمواجهات، وحتى وفّر عليها مليارات الدولارات، فهو فعل كل شيء لمواجهة الأغبياء الأميركيين، ودعم الأغبياء النافعين من الجانبين، لذا دعمته روسيا. 

هناك من يقول إنه لو فكر الرئيس بوتين منذ 10 سنوات بإعادة إحياء التواصل وتمتين العلاقات بين الدول السلافية مثل بيلاروسيا، وصربيا، والجبل الأسود، وسلوفاكيا، وغيرها من هذه الدول التي يجمعها التاريخ والانتماء والجغرافيا واللغة، كما هي حال الدول الأنجلوساكسونية، لكان الوضع غير ذلك تماماً الآن، وأسهل بكثير في المواجهة القائمة، ولرجّحت الكفة لمصلحة روسيا بقليل من العناء والكلفة.

الأكثر من ذلك، محاولات سَوق العالم إلى المواجهات، إذ كان واضحاً التعاون الأميركي البريطاني في تفاصيل ما يجري، وصولاً إلى عمليات السطو على أموال "الأوليغارشيين" الروس ومصادرتها أو تجميدها، وهذه مجرد خطوة أولى في طريق سرقة الأموال الأجنبية، كما اعتدنا سابقاً من دول الغرب. 

وإذا ما تغاضينا عن عشرات من السنين في السطو على أموال العالم وثرواته، كما حدث للأموال العراقية والسورية والليبية، وحتى بعض الخليجية، إذ نهب الغرب الأصول الليبية المجمّدة بعد العام 2011، فقد اختفى ما يقارب 11 مليار دولار من الحسابات الليبية في بلجيكا وحدها. وكانت التقارير تتحدَّث عن أكثر من 300 مليار دولار في البنوك الغربية. ومؤخراً، تم الإعلان عن مصادرة 7 مليارات دولار للدولة الأفغانية، وصولاً إلى الروس، وهذا المصير ينتظر دول المنطقة، بحسب خبراء. 

بالنسبة إلى النخبة الروسية، كانت مصادرة الأموال الروسية كجزء من إفلاس بنوك قبرص في العام 2013، حين صادرت الحكومة القبرصية، بالتعاون مع المفوضية الأوروبية، 6.75% من الأموال من حسابات العملاء التي تقل عن 100 ألف يورو، و9.9% من حسابات العملاء التي تزيد على 100 ألف يورو. خسر رجال الأعمال الروس حينها ما يصل إلى 3.5 مليارات يورو، كما خسرت شركة "غازبروم" مليارات الدولارات، كذلك اقتطعت أوروبا أموالاً روسية لإنقاذ النظام الموالي للغرب والمناهض لروسيا في أوكرانيا، ولا ننسى مصادرة بريطانيا لاحتياطيات الذهب الفنزويلي، وقيمتها أكثر من مليار دولار.

يحدث هذا في ظل مرحلة قاسية من مراحل أفول النظام العالمي الحالي وانهيار الاقتصاد العالمي ككل وتغير هيكلته وأسسه وطرائق تشابك مصالحه وتحالفاته. الغرب يمر هذه الأيام في مرحلة من أصعب المراحل التي يمكن أن يمر بها، في ظل نقص الموارد والظروف العالمية السيئة، وارتفاع مستوى المعوقات التي تمنع الإصلاح الاقتصادي، ما يجعل هذا الغرب يذهب نحو السيطرة القسرية على الموارد من المنافسين ومن الحلفاء والوكلاء والأصدقاء والعملاء، الذين آمنوا به على حد سواء. وتاريخياً، شهدنا كيف يتخلّى الغرب عن قيمه ومبادئه التي يتغنّى بها في الشراكات، ويتخلّى عن الأسس والمبادئ والقيم التي بنى عليها اقتصاده ومجتمعه لرد الضعف عنه، وليبقى في القمة فوق الجميع وعلى حساب الجميع.

هل يمكن بعد كل ما أتينا على ذكره آنفاً، وهو صورة واقعية، وليست من وحي الخيال، أن يقف عاقلٌ مع هذه التوجهات الغريبة حيال القوانين والشرائع الدولية والأخلاق الإنسانية، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، ألا يتضح أن الحرب الأميركية الغربية ضد روسيا هي ضد العالم أجمع، وأن الكاسب الأكبر في هذه الحرب هو روسيا في حال أرادت التعاطي بما سلف، والخاسر الأكبر في المقابل هو دول الاتحاد الأوروبي، وقادته يعُون ذلك، وهم في ورطة مع الأميركي، لذا لجأوا إلى الروسي بمعزل عن واشنطن لضمان سلامتهم، ولكن ما يقومون به لا يكفي لخروجهم سالمين من الأزمة حتى لو لم تقع الحرب، والحبل على الجرّار لباقي الدول. بوتين هو العاقل، ولا يريد المخاطرة بمصير العالم، فهل يتعقلون!

حلف الناتو يحاول التمدد باتجاه الشرق قرب حدود روسيا، عن طريق ضم أوكرانيا، وروسيا الاتحادية ترفض ذلك وتطالب بضمانات أمنية، فتعترف بجمهوريتي لوغانسك ودونيتسك، وتطلق عملية عسكرية في إقليم دونباس، بسبب قصف القوات الأوكرانية المتكرر على الإقليم.