هل نحن على أبواب الحرب العالمية الثالثة؟

فهل نشهد حرباً كونية ثالثة، أم يتوقف العدوان على غزة، ويتجرع الكيان ما أصابه يوم السابع من تشرين الأول / أكتوبر، ويعيد الغرب حساباته، وتبدأ مراحل إعادة توزيع الأدوار؟

  • الحرب على غزة.
    الحرب على غزة.

صعود ألمانيا بعد توحيد ولاياتها عام 1871 على يد بسمارك، وصراعها مع بريطانيا وفرنسا على تقاسم مناطق النفوذ في آسيا وأفريقيا؛ أنتج الحرب العالمية الأولى.

الأزمة الاقتصادية العالمية الكبرى عام 1929، وصعود ألمانيا على يد هتلر، ومنافستها بريطانيا وفرنسا على مناطق النفوذ في العالم؛ أنتج الحرب العالمية الثانية.

صعود الولايات المتحدة الأميركية، ومحاولاتها ملء الفراغ في مناطق النفوذ البريطاني والفرنسي على مساحة الكرة الأرضية؛ أنتج حرب السويس 1956، ولولا أن بريطانيا وفرنسا كانتا قد خرجتا من الحرب العالمية الثانية منهكتين، والإنذار السوفياتي، وميوعة الموقف الأميركي، لتدحرجت حرب السويس إلى حرب عالمية ثالثة، فاستسلمت لندن وباريس للقوة الإمبريالية الغربية الصاعدة "أميركا" على اعتبار أنها جزء من التحالف الغربي، الذي خرج من الحرب العالمية الثانية قوة عظمى كبرى. لاحظوا هنا الصراع أيضاً على مناطق النفوذ.

الصعود السوفياتي بعد الحرب العالمية الثانية، ومنافسته أميركا؛ أنتج الحرب الباردة، وهي حرب عالمية، لكن أسلحتها اختلفت. وهنا أيضاً الصراع على مناطق النفوذ، ومحاولات أميركا منع الاتحاد السوفياتي من مساعدة الشعوب على التخلص من النفوذ الإمبريالي الغربي.

اليوم، نحن نعيش تداعيات الأزمة الاقتصادية عام 2008، والصعود الصيني والروسي، فهل تتدحرج الأوضاع وتنتقل إلى صراع كوني جديد، ساحته منطقتنا، علماً أن الحرب العالمية الثالثة كان يمكن أن تندلع بعد الأزمة الأوكرانية، أو بسبب الصراع في بحر الصين. 

لكن، كما يبدو، فإن النفوذ في منطقتنا، ووجود الكيان الصهيوني المتداعي، وخشية الغرب الإمبريالي خسارة جديدة شرق البحر المتوسط بعد هزيمته في أوراسيا، ولجمه في بحر الصين، وتصدع بناه حول العالم، ابتداءً من أفريقيا، وليس انتهاءً بأميركا اللاتينية، والتمدد الصيني تحت شعار "الحزام والطريق"، واكتشاف أميركا أن مشروع "الممر الاقتصادي"، الذي أعلنته في قمة العشرين الأخيرة في الهند، لمواجهة مشروع الحزام والطريق الصيني، يحتاج تمهيدات كثيرة، بخاصة في منطقتنا، أبرزها تصفية القضية الفلسطينية، لبدء تنفيذ الشق الخاص بالشرق العربي من هذا المشروع من شبكات طرق وسكك حديدية ومحطات طاقة وخلاف ذلك؛ لكل ذلك ولأسباب أخرى، فإن الحرب على غزة مرشحة، بعد 83 يوماً، للتوسع، وهذا يعني، موضوعياً، اشتراك دول إقليمية في الحرب، كإيران، وتدخل الولايات المتحدة الأميركية المتحفزة والجاهزة، ودول أوروبية أخرى، ما قد يُدخل العالم كله في حرب كونية جديدة.

الرأسمالية، ببنيتها، تحتاج كل فترة وأخرى افتعال حروب مختلفة، لإعادة تجديد نفسها، عبر تجديد مجمعاتها الاقتصادية المتعددة المنتشرة حول العالم، فالاقتصاد ينمو في الحروب، وبعدها، عند إعادة الإعمار، بنسب أعلى، وهو ما تحتاجه الرأسمالية الغربية اليوم.

صانع القرار في المركز الرأسمالي (أميركا) يدرك أن الحرب العالمية الثالثة ستقع في أي لحظة، لكنه يتفاداها، لأنه غير واثق من النتيجة؛ وهذا ما يدركه نتنياهو، لذا فهو يفعل ما بوسعه لجرّ أميركا أكثر نحو توسيع نطاق الحرب المحتدمة على غزة، لتشكيل تحالف غربي- صهيوني- عربي في مواجهة إيران، حتى لو أدى ذلك إلى تدحرج الصراع ونشوب الحرب العالمية الثالثة، فهل تقع؟ 

أنا شخصياً لا أرجّح تدحرج الصراع إلى أكثر مما حدث في غزة، وأعتقد أن المفاوضات الجارية اليوم على صفقة لتبادل الأسرى وإعادة إعمار غزة وفتح المعابر ستنتهي قريباً إلى اتفاق، لأسباب كثيرة أهمها:

1: الكيان الصهيوني لا يحتمل حرباً طويلة، وخسائر أكثر، ومجرد التفكير في دخول حزب الله المعركة بكامل قوته، يعني أن 90% من السكان في "دولة" الكيان سيختبئون في الملاجئ، وما سيتبع ذلك من ارتفاع وتيرة الهجرة الصهيونية المعاكسة، التي بدأت تتنامى منذ السابع من تشرين الأول / أكتوبر. 

فالحركة الصهيونية بنت سرديتها، التي استقطبت يهود العالم للهجرة إلى فلسطين على أساسها، تتمثل في أن فلسطين "أرض الميعاد" هي أرض المن والسلوى والحياة المرفهة.

2: الإدارة الأميركية في عام الانتخابات، التي ستبدأ حملتها قريباً، تُمسي "بطة عرجاء"، لا تستطيع اتخاذ قرارات مصيرية كالدخول في حروب بعيدة، ناهيك بأن خشية الإدارة الأميركية خسارة الانتخابات، إذا ما جرت وقائع الحرب على عكس رغباتها، تلجم البيت الأبيض وتجعله متردداً كلما شعر بأن نطاق المعارك سيتوسع.

لكن، قد يسأل سائل: هل يمكن أن تدفع الظروف الاقتصادية في أميركا واشنطن إلى منع الانجرار نحو حرب كونية؟

أنا أقول إن الحرب الكونية هي المنقذ للأزمات الاقتصادية المعقدة التي تعيشها الرأسمالية الغربية، وبروز رأسماليات ناشئة تنافس أميركا، هو ما قد يدفع نحو حرب كونية للخروج منها، كما ظلت تفعل الرأسمالية، كلما شعرت بأخطار يشكلها منافسون. غير أن السؤال هو: هل أميركا جاهزة أو قادرة على اتخاذ قرار الدخول في حرب واسعة الآن؟ 

3: الأطراف العربية الحليفة لأميركا، وهي دول الخليج ومصر والأردن، غير جاهزة للانخراط في حروب تفقدها استقرارها الاقتصادي بالنسبة إلى السعودية ودول الخليج، واستقرارها السياسي والأمني بالنسبة إلى مصر والأردن، لذا فإن حكومات هذه الدول تعمل وسعها لمنع اتساع نطاق الحرب.

4: دول أوروبا الغربية، الحليف التقليدي لأميركا والكيان الصهيوني، تعيش أزمات مركبة، اقتصادية- سياسية- اجتماعية، وكانت الحرب على أوكرانيا هي الأقرب لها، وكان الأجدى أن تدفع في اتجاه توسيعها، لو كانت قادرة على دفع الثمن، لذا فهي، وهي ترفع وتيرة دعمها للكيان، وترسل قطعها البحرية إلى البحر الأبيض المتوسط، تعمل على منع اندلاع الحرائق في مناطق بعيداً من غزة.

5: الأطراف الأربعة السابقة، تريد القضاء على المقاومة الفلسطينية في غزة، وعودة الأوضاع إلى ما قبل يوم السابع من تشرين الأول / أكتوبر، وكأنّ شيئاً لم يحدث في ذاك اليوم، من دون أن تدفع أثماناً.

مقابل هذا التحالف؛ يوجد تحالف آخر، دوله تسعى بقدر ما تستطيع لمنع توسع نطاق الحرب، واحتدام الصراع والوصول إلى حرب عالمية ثالثة، ستدفع شعوب منطقتنا ودولها بسببها أثماناً باهظة، حتى لو كانت مؤمنة بأنها ستنتصر في الحرب.

1: محور المقاومة:

- سوريا، دولة منهكة نتيجة الحرب والحصار، بالكاد قادرة على توفير المتطلبات الأساسية لمواطنيها، ناهيك بأنها ما زالت تخوض معارك على أكثر من جبهة، وجزء من أرضها محتل من تركيا وأميركا والكيان الصهيوني، لكن إن اقتضت الضرورة، فإنها ستنخرط في الحرب، مع أنها لا تسعى إليها.

- العراق، دولة منهكة أيضاً، دولة شبه محتلة، فما زالت القوات الأميركية رابضة في قواعدها، وقادرة على الضرب. 

إضافة إلى أن دستور "بريمر" المعمول به في العراق، يقسم البلد إلى ثلاثة مكونات، وفق مواد هذا الدستور، ما يفرقها أكثر مما يجمعها. 

ناهيك بأن الجيب الكردي يشكل خطراً كبيراً على العراق وعلى سوريا وإيران في الوقت نفسه، فعلاقاته مع أميركا والكيان الصهيوني تجعله يلعب دوراً كبيراً في الحرب المتوقعة إن اندلعت.

 لكن بغداد، قد تكون الحرب الإقليمية بالنسبة لها فرصة لإعادة الاعتبار لدولة مركزية قوية، ظلت آلاف الأعوام مستقرة وفاعلة في هذا الجزء من الإقليم.

- لبنان دولة منهكة أيضاً، بسبب الحصار الاقتصادي، و"الستاتيكو" السياسي القائم منذ انتهاء مدة الرئيس السابق ميشيل عون. 

صحيح أن حزب الله الذي يمتلك فائض قوة، قادر أن يوجع الكيان الصهيوني ويفرض شروطاً، إذا ما تطلبت التطورات الميدانية توسيع نطاق مشاركته في الحرب، غير أن شريحة من اللبنانيين لا تؤيد دخوله الحرب. لذا، فإن حزب الله يخوض الحرب بعناية شديدة وبمقاييس دقيقة. 

- اليمن دولة منهكة أيضاً، وحكومتها بالكاد قادرة على توفير متطلبات شعبها، فبعد ثماني سنوات من حرب مع السعودية أكلت الأخضر واليابس، آخر ما يريده هذا البلد العظيم هو حرب جديدة. 

لكن أنصار الله انخرطوا في المعركة بكل ثقلهم، وحوّلوا البحر الأحمر إلى ساحة مهمة للصراع، وأوجعوا العدو الصهيوني بمنعهم السفن المتجهة إليه عبر باب المندب من الوصول إلى ميناء "إيلات".

 وهم بالتأكيد جاهزون للتوسع في المعارك، لكنهم لم يسعوا إليها ولا يريدون لها أن تتسع.

- إيران، وهي الدولة المركزية في هذا المحور، وتمتلك إمكانات كبيرة، وقادرة على خوض معارك إقليمية أو كونية، غير أن أكثر من سبب يجعلها، لا ترغب في الانخراط بشكل مباشر في الحرب، وتوسيع نطاقها، وخروجها عن السيطرة، وهو ما ظلت دبلوماسية طهران تحذر منه طوال الأشهر الثلاثة السابقة. 

هذا واقع دول محور المقاومة، وهو واقع يجعل أطرافه كافة تعمل على منع اتساع نطاق الحرب، لكن إن اضطرت فإنها ستدخلها.

2: تركيا دولة لا لون لها في هذا الصراع، فهي، بسبب انتهازية إردوغان، مع الغرب أحياناً، ومع الشرق أحياناً أخرى. لذا، فإن المراهنة على مواقف واضحة، تجعل أنقرة تدفع أثماناً باهظة، مراهنة على حصان خاسر، فقد تمكن إردوغان على مدى سنوات حكمه أن يُكسب تركيا صفاته الانتهازية، معك وضدك في الآن عينه.

3: روسيا، تعدّ من أكثر الدول استفادة من الحرب القائمة على غزة، فهذه الحرب خففت من الدعم الغربي لأوكرانيا، وصرفت أنظار الإعلام الغربي المسيطر، الذي شيطن موسكو وبوتين، عما يجري في أوراسيا. لكن، هل ستنخرط روسيا في حرب كونية إن توسعت المعارك في منطقتنا؟

أنا أعتقد أنها ستنخرط، فموسكو قطعت شوطاً واسعاً في الاستدارة من الغرب في اتجاه الشرق، وأصبحت روسيا أقرب إلى الدولة الشرقية منها إلى الغرب، حتى على المستوى الثقافي، فكلنا يذكر خطابات بوتين في هذا السياق. كما أن لروسيا مصلحة في تقليص نفوذ الغرب، لتنفيذ مشروعها في الإمبراطورية الأوراسية، والشراكة مع الصين والهند وشرق المتوسط وأفريقيا.

4: الصين دولة غامضة، كما الشخصية الصينية، فالصين تتقدم على الأرض، وتتوسع، لكن خطابها تجاه الغرب ناعم، لجهة أنه يشكل سوقاً واسعة لبضائع الصين، ولجهة أخرى أن الصين أكثر مستفيد مما تنتجه الرأسمالية الغربية من أبحاث علمية، لأنها أكبر صانع في العالم، بأقل التكاليف، وكل العالم يحتاجها، بما في ذلك الغرب الرأسمالي، لذا يمنحها ما تنتجه المختبرات البحثية. 

الصين لا تحبذ توسيع نطاق الحرب على غزة، وتعمل على منعه، لكن هل يمكن أن تنخرط بكين في المعارك إن هي اتسعت وخرجت عن نطاق الإقليم. أنا أعتقد أنها ستتردد كثيراً قبل أن تقدم على هذه الخطوة، لأنها ستخسر أسواقاً واستثمارات كثيرة، إضافة إلى أنها قد تخسر ديونها على الحكومة الأميركية التي تقدر بنحو ترليون دولار.

بيد أن هذا لا يعني أنها لا يمكن أن تدخل الحرب إذا ما شعرت أن مشروعها الاستراتيجي "الحزام والطريق"، الذي تعول عليه كثيراً لتصبح القوة الأعظم في العالم، اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً، خلال الثلاثين عاماً المقبلة، يمكن أن يتداعى، حينذاك ستدخل الحرب بكل ثقلها.

أنا لا أرجح تدحرج الحرب على غزة إلى حرب إقليمية، لكن؛ هذا لا يعني أن هذا الخيار غير قائم، بل لعله يزداد يوماً تلو الآخر، كما زاد الإيغال في الدم الفلسطيني، وزادت خسائر الكيان الصهيوني والغرب المتوحش.

فهل نشهد حرباً كونية ثالثة، أم يتوقف العدوان على غزة، ويتجرع الكيان ما أصابه يوم السابع من تشرين الأول / أكتوبر، ويعيد الغرب حساباته، وتبدأ مراحل إعادة توزيع الأدوار، والضغوط السياسية والاقتصادية على الدول المختلفة حول العالم، لتشكيل تحالف دولي كبير، قادر على خوض حرب كونية في العام 2025، فالرأسمالية لا يمكن لها أن تحسم تناقضاتها المتشابكة من دون حرب كونية، لكن