هل تتحالف فرنسا وبريطانيا مجدداً ضد ألمانيا؟
لقد كشفت الحرب في أوكرانيا تصدعات وشروخاً في العلاقات الفرنسية الألمانية.
لم تعبّر العلاقات بين فرنسا وبريطانيا عبر التاريخ عن علاقاتٍ جيدة وحسن جوار، على الرغم من التاريخ الطويل الذي جمعهما معاً أو وجهاً لوجه، واتسمت علاقاتهما بالتعقيد والتوترات والخلافات، وخاضا بسببها عدة حروب ومواجهات على امتداد سنوات العصور الوسطى كدولتين عدوتين، كحرب المئة عام، وحروب الثورة الفرنسية، وحرب السنوات السبع، والحروب "النابليونية".
ومع ذلك، حلّ السلام بينهما مع توقيعهما ما عُرف بالاتفاق الودّي عام 1904، وتحالفا ضد ألمانيا في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وساهمت الجيوش البريطانية في تحرير فرنسا من النازيين، ووقفتا خلال الحرب الباردة في وجه الاتحاد السوفياتي، وكانتا من الأعضاء المؤسسين لحلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة، لكن هذا لم يمنع استمرار الاختلاف حول العديد من القضايا البينية والأوروبية والعالمية، وغالباً ما يُشار إليهما على أنهما "الخصمان التاريخيان".
وفي العصر الحديث، استمرّت الخلافات في فترة حكم رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل والرئيس الفرنسي شارل ديغول، على الرغم من انتصارهما على النازية، نتيجة سعي كلٍّ منهما إلى قيادة أوروبا، ولكنَّ التوجهات والمسارات المختلفة والمتضادة بينهما لتحقيق ذلك حدد شكّل العلاقة بين قادة البلدين إلى يومنا هذا.
وتأثرت علاقات البلدين بشكلٍ كبير مع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، خصوصاً مع اعتبار باريس أنَّ لندن لم تلتزم الاتفاق المنصوص عليه بعد البريكست، الذي يقضي بالسماح للصيادين الأوروبيين بمواصلة العمل في جزء من المياه التابعة لبريطانيا، الأمر الذي تطور لاحقاً وأدى إلى نشوب نزاعٍ حاد بينهما، وخصوصاً أن المياه في محيط جزيرة جيرسي البريطانية والقريبة من السواحل الفرنسية غنية بالأسماك، ناهيك بالأزمة الدبلوماسية الحادة بينهما على خلفية اتفاق "أوكوس" الَّذي أبرمته بريطانيا مع أستراليا والولايات المتحدة، والذي تم بموجبه إلغاء أستراليا صفقة الغواصات المبرمة مسبقاً مع فرنسا، الأمر الذي أغضب فرنسا وألحق بها ضرراً كبيراً.
لم تتوقَّف العدائية بين البلدين، وانتهى لقاء بوريس جونسون بالرئيس ماكرون في 24 تشرين الثاني/نوفمبر 2021 حول قضية غرق 27 مهاجراً أثناء محاولتهم عبور بحر المانش من دون أي اتفاق. وفي إثر هذا اللقاء، وصف الرئيس ماكرون جاره الإنكليزي بوريس جونسون بـ"المهرج"... أمورٌ بمجملها تؤكد أن فرنسا وبريطانيا جاران وحليفان استراتيجيان، لكنهما يقفان على طرفي نقيض.
ومع إعلان الملك البريطاني الجديد تشارلز أن زيارته الأولى ستكون إلى فرنسا، يطرح السؤال نفسه: هل تعود بريطانيا وفرنسا إلى "الود" ثانيةً؟ وهل يحمل لقاء ماكرون – تروس، على هامش لقاءات الجمعية العمومية للأمم المتحدة، دلالة ما، بالتوازي مع تطلعات العديد من الفرنسيين نحو علاقاتٍ وثيقة مع بريطانيا تؤدي في النتيجة إلى الابتعاد التدريجي عن ألمانيا، بفضل بهمسٍ فرنسي تحول إلى بوحٍ علني أطلقته مارين لوبان عام 2021، بـ"إبعاد الفرنسيين عن ألمانيا لمصلحة علاقات وثيقة مع بريطانيا"، نتيجة اعتقادها بالتأثير الألماني السلبي في الاقتصاد الفرنسي!
هذا الأمر يعززه السلوك الألماني خلال أزمة الطاقة الحالية، بعدما كشف تقرير لمركز الأبحاث الأوروبي اتجاه ألمانيا منذ أكثر من 20 عاماً نحو مشاريع الطاقة البديلة على حساب الطاقة النووية، وهي السياسة التي صدقها ماكرون ودعمها وسار بها، فأغلق 17 محطة نووية خلال فترة حكمه الأولى.
واليوم، تدفع فرنسا ثمن هذا الخطأ، في وقتٍ لا يزال ماكرون يصر على مشاريع الطاقة الخضراء، ويبتهج مغرداً قبل أيام في "تويتر"، متباهياً بتدشين مشروع صغير للمراوح الهوائية لتشغيل توربينات إنتاج الكهرباء، يقول إنها "ستعين الفرنسيين في هذا الشتاء!"، وهو يعلم تماماً أن المشروع لا يمكنه تعويض الغاز الروسي. وقد نال نصيبه من السخرية والتعليقات القاسية من المتابعين.
يأتي هذا إضافةً إلى المقترح الغريب الذي أطلقته رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين بوضع أسقف على أسعار الطاقة المتجددة والطاقة الكهرومائية والنووية وفرض ضرائب جديدة، باعتبارها مشاريع منتجة للطاقة بتكاليف منخفضة، بالمقارنة مع تكاليف محطات توليد الطاقة بالفحم والغاز، "بما يساعد الدول الأعضاء التي يتعيَّن عليها شراء الغاز لإنتاج الكهرباء مثل ألمانيا".
بالتأكيد، يعكس اقتراحها مصلحة ألمانيا على حساب فرنسا وغيرها، في وقتٍ يرى بعض الفرنسيين أن على ألمانيا تحمّل مسؤولية قراراتها الخاطئة على مدى 20 عاماً ونتائجها، وليس على حساب الآخرين، وخصوصاً أن هذه الإستراتيجية الألمانية تم فضحها في كتاب نُشر حديثاً للنائب الفرنسي ورئيس الجمعية الوطنية الفرنسية السابق برنارد أكوير تحت عنوان "محاولة لإفشال الصناعة النووية الفرنسية".
وقد تحدث فيه عن تآمر ميركل بدعم من الاتحاد الأوروبي وحزب الخضر الفرنسي على فرنسا، عن طريق فرض تشريعات أوروبية تساعد منتجي الطاقة والكهرباء عبر المحطات النووية على الإنتاج بأسعارٍ منخفضة، كذلك النصيحة التي قدّمها الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي للمستشارة ميركل عام 2007 بعدم تخلي ألمانيا عن الطاقة النووية، لرغبته في أن يكون لفرنسا وألمانيا طموحات موحّدة حيال الطاقة، لكن ميركل رفضت الإنصات إلى نصائحه، وتقدّمت بعد 4 سنوات نحو الإلغاء التدريجي لجميع المفاعلات النووية الألمانية السبعة عشر، وأطلقت في الوقت نفسه حملة للضغط على فرنسا لتحذو حذوها.
ويرى البعض أنَّ الفرنسيين لم يتمكّنوا من كفّ يد ألمانيا عن محاولات أذيتهم، بسبب ضعف من تعاقبوا على حكم فرنسا (فرانسوا هولاند وإيمانويل ماكرون)، الذين ساروا وفق استراتيجية الطاقة الألمانية التي تخدم مصالح برلين، ولكنها تضرب مصالح فرنسا، إلى درجة إعلان الرئيس ماكرون إعجابه بمقترح رئيسة المفوضية الأوروبية، واتفاقه مع شولتس على أن ترسل فرنسا 5% من احتياطاتها من الغاز إلى ألمانيا مع بداية الشهر المقبل، فيما تحصل في المقابل على الكهرباء منها.
لقد كشفت الحرب في أوكرانيا تصدعات وشروخاً في العلاقات الفرنسية الألمانية. وبحسب مارين لوبان وآخرين، يبدو أن "الأوان آن كي تبحث فرنسا عن شركاء أوروبيين آخرين"، وقد تكون بريطانيا وجهتهم القادمة.