نقص السيولة في غزة أداة للحرب عليها
لعل ظاهرة نقص السيولة، والتي نتحدث عنها، هي أيضاً شكل من أشكال الألم في غزة، بحيث يعاني اليوم القطاع هذه الحالة، الأمر الذي أدى إلى تخبطات تمس الحياة اليومية، التي هي في الأساس في وضع مزرٍ.
تُعَدّ السيولة المحلية أحد العوامل الحيوية في الاقتصاد، بحيث تشكل الدوران المستمر للأموال والقدرة على الوصول إلى النقد اللازم للقيام بالمعاملات اليومية. ونتيجة ذلك، فهي أساسية للنمو الاقتصادي والاستقرار المالي.
تسبب نقص السيولة المحلية في تعثر عدد من الأنشطة الاقتصادية، بحيث يُعرقل عمليات الشراء والبيع والاستثمار والتمويل، الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى تباطؤ النمو الاقتصادي وتضخم البطالة. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يؤدي نقص السيولة المحلية إلى زيادة التأخر في تسديد الديون، على نحو يؤثر في الثقة بالنظام المالي، ويزيد في مخاطر الأزمات المالية.
بالتالي، يجب على الحكومات والمؤسسات المالية والاقتصادية التعاون بصورة وثيقة لمعالجة التحديات المتعلقة بنقص السيولة المحلية وتعزيز الاستقرار النقدي من أجل ضمان النمو المستدام والتنمية الشاملة في البلدان.
وبهذا كله، يمكن أن نعرف نقص السيولة الذي نتحدث عنه، بأنه عدم قدرة الجهات الفاعلة داخل الاقتصاد على تحويل الأصول المالية الأخرى (السائلة عادة) إلى عملة، ونقصد بالأصول المالية أنها الودائع تحت الطلب والودائع الادخارية لدى النظام المصرفي.
وترتبط ظاهرة النقص النقدي ارتباطاً وثيقاً بمفهوم ماكينون (1973) للأسواق المالية الرسمية الضحلة. وغير ذلك فإن السبب الأهم لهذه الحالة، "نقص السيولة"، من وجهة نظرنا، هو تفشي حالة فشل الوساطة المالية، إذ يُعَدّ نقص السيولة مظهراً من مظاهرها، وتكون هذه الحالة عندما يصبح القطاع المصرفي غير قادر على اجتذاب القدر الكافي من الودائع طوعاً. وفي حالات أخرى يكون النقص النقدي نتيجة قرارات حكومية هدفها السيطرة على الضغوط التضخمية، لكن ذلك له انعكاسات خطيرة جداً إذا استخدمت تلك الأداة.
ولعل ظاهرة نقص السيولة، والتي نتحدث عنها، هي أيضاً شكل من أشكال الألم في غزة، بحيث يعاني اليوم القطاع هذه الحالة، الأمر الذي أدى إلى تخبطات تمس الحياة اليومية، التي هي في الأساس في وضع مزرٍ.
أسباب نقص السيولة في غزة
لم يكتف الجيش الصهيوني بارتكاب جرائم القتل والتدمير والتهجير والاغتصاب في قطاع غزة، وإنما تعدى الأمر ليصل إلى ارتكاب جرائم ذات طابع اقتصادي نقدي، إذ يعتمد جيش الاحتلال الصهيوني، على ما يبدو، على خطة متكاملة الأركان لتصفية الشعب الفلسطيني، تبدأ بالقتل المباشر، وتمر بقتل أسباب عيشه، لتصل إلى قتل أدوات الحياة اليومية والتي نعنيها نحن في هذا السياق، "النقد"
ومع بداية التوغل البري، وثق عدد من جنود الاحتياط سلسلة فيديوهات في أثناء سلبهم مقتنيات ومقدرات من منازل الفلسطينيين في شمالي القطاع، لكن سرعان ما حظر الجيش الإسرائيلي على جنوده المشاركة في مثل هذه الفيديوهات، والتي أظهرت عمليات نهب وسرقة ممنهجة خلال مداهمة منازل أهالي غزة.
وأظهرت الفيديوهات، التي شارك فيها جنود الاحتلال في شبكات التواصل الاجتماعي قبل الحظر، أن عمليات النهب والسرقة تمت بعدة طرائق وأساليب، منها اقتحام المنازل التي طالبوا سكانها بمغادرتها، ثم نهبوها كما حدث في بيت لاهيا، وواصل الجنود عند الحواجز على شارع صلاح الدين سلب المقتنيات والأموال للغزيين النازحين من شمالي القطاع إلى الجنوب.
ويشير حظر الاحتلال مشاركة فيديوهات النهب والسرقة للمنازل في القطاع إلى أن ظاهرة السرقة الممنهجة لأموال الغزيين واسعة جداً، بيد أن وسائل الإعلام الإسرائيلي تكتمت على الظاهرة، وامتنعت عن تسليط الضوء على تورط جنود من جيش الاحتلال في سرقة ممنهجة لأموال وممتلكات للفلسطينيين، بما يشمل مبالغ مالية ومصاغ ذهبي وهواتف خلوية وحواسيب نقالة.
وبالإضافة إلى عملية سرقة المنازل تستكمل خطة تصفية القطاع من النقد من خلال سرقة البنوك، إذ كشفت صحيفة "معاريف" الإسرائيلية، الأحد 11 شباط/فراير 2024، أن الجيش الإسرائيلي استولى على 200 مليون شيكل من أموال السلطة الفلسطينية، كانت في بنك فلسطين في مدينة غزة.
ومنذ بداية الحرب على غزة، قطع الكيان الصهيوني الأموال المخصصة للسلطة الفلسطينية، والتي توجهها السلطة إلى غزة، وأيضاً تم تسريح آلاف العمال الغزيين وحتى من سكان الضفة من العمل على رغم أن الضرر في هذه الحالة يكون على الجانبين الفلسطيني والصهيوني. ففلسطينياً، يزيد في مستوى البطالة ويتعاظم مع مشكلة نقص السيولة، أما الجانب الصهيوني فيتأثر اقتصاده لأن العامل الفلسطيني يتقاضى راتبه بالشيكل الإسرائيلي ويصب في نهاية المطاف في الدورة الاقتصادية الإسرائيلية، على عكس العامل من بلدان أخرى، الذي سيتقاضى راتبه بالدولار الأميركي ويحدث تسريب في الاقتصاد نتيجة ذلك.
وانسجاماً مع خطة الاحتلال التصفوية، عمل الجيش الصهيوني على تدمير عدد من البنوك خلال القصف المستمر على قطاع غزة، وترافق ذلك مع استحالة فتح سائر الفروع لإجراء عمليات السحب والإيداع في مختلف أنحاء القطاع، بسبب القصف المستمر وانقطاع التيار الكهربائي والإغلاق وانعدام الأمن، بحسب بيان صادر عن سلطة النقد الفلسطينية.
وقالت سلطة النقد، في البيان نفسه، والذي أصدرته في 24\3\2024، إن ذلك أدى إلى أزمة غير مسبوقة في السيولة النقدية تفاقمت مع خروج معظم أجهزة الصراف الآلي عن الخدمة.
مآلات نقص السيولة
في الأوضاع الطبيعية، إن نقص السيولة في الاقتصاد يؤدي إلى حدوث صدمة في السوق، وبالتالي إلى ارتباكات مستعصية في العمليات الاقتصادية اليومية، بداية من البيع والشراء وصولاً إلى الاستثمار والتبادل الدولي.
لكن في غزة تكون الآثار مضاعفة من حيث السوء، إذ يضاف عامل الحرب على أي معطى يدرس. وبهذا فإننا نرى أن حالة نقص السيولة المخلوقة ستؤثر في مديين، هما:
المدى الطويل: يتمثل من خلال تباطؤ نمو الاقتصاد. فإذا لم يكن هناك كثير من السيولة المتاحة، فقد يعجز الاقتصاد عن تحقيق نمو قوي، نتيجة انخفاض الاستثمار وغيره.
المدى القصير: يتمثل بـ:
1. ارتفاع تكلفة الاقتراض: إذا كانت السيولة محدودة، فقد يصعب الحصول على قروض رخيصة، الأمر الذي يرفع التكلفة العامة للإقراض.
2. تضخم التضخم: قد يؤدي تقليص السيولة إلى ارتفاع معدلات التضخم، بحيث يزيد الطلب على السلع والخدمات، على نحو يدفع أسعارها إلى الارتفاع.
3. ارتفاع معدلات البطالة: إذا كان هناك قلة من السيولة، فقد يكون من الصعب على الشركات توظيف العمالة الإضافية، الأمر الذي يزيد في معدلات البطالة.
4. مشاكل اجتماعية: تتجلى في انتشار عمليات الابتزاز من جانب التجار وبعض أصحاب محال الصرافة، والذين يستخدمون أجهزة الخصم المباشر في نقاط البيع، أو تحويل الأموال عبر تطبيقات الخدمات المصرفية عبر الإنترنت. وبحسب سلطة النقد الفلسطينية، فإن تلك المحال تتقاضى رسوماً تصل إلى 15 دولاراً عن كل مئة دولار على الأموال التي يتلقونها.
ختاماً، يبقى الحل لأي مشكلة في قطاع غزة هو وقف إطلاق النار الفوري، إذ اعتاد الشعب الفلسطيني أن ينهض بعد كل حرب ويعيد إنتاج نفسه بمعانيه الخالدة، كإنسان وكفدائي يسعى من أجل حرية أرضه وشعبه.