موازنة لبنان 2022 والصراع من أجل البقاء

كيف تحتجز الدولة أموال المودعين في المصارف، في الوقت الذي هرّب مسؤولوها أموالهم إلى الخارج. وفي المقابل، تطلب منهم القيام بالتضحيات من أجل وطنهم لبنان؟

  • لم تلحظ الموازنة توجيه سؤال
    لم تلحظ الموازنة توجيه سؤال "من أين لك هذا؟"

تحت شعار "العين بصيرة واليد قصيرة"، أبصرت موازنة العام 2022 النور في بعبدا على وقع أنين اللبنانيين الذين يرزح أغلبيتهم تحت وطأة فقر بات أقرب إلى المجاعة، نتيجة انهيار اقتصاديّ وماليّ لم يشهد تاريخ هذا البلد مثيلاً له. 

ورغم حاجة لبنان إلى وضع موازنة تتيح استعادة ثقة المجتمع الدولي، وتحديداً صندوق النقد الدولي، فإنها شكَّلت "صدمة سلبية" في الشّارع اللبناني الَّذي كان يتخوَّف من بعض البنود التي خرجت إلى العلن أثناء مناقشتها، ولا سيما تلك المتعلقة بـ"رفع الدولار الجمركي"، إذ رأى الكثير من المحللين أنّه سيرفع الأسعار المستوردة بطريقة جنونية، الأمر الذي سيزيد أعباء إضافية على كاهل المواطن.

رغم تشديد رئيس الجمهورية العماد ميشال عون على وجوب أن يترافق مشروع الموازنة مع خطة التعافي التي يجب أن تتضمّن تحديد الخسائر وكيفية توزيعها، مع الإصرار على عدم المسّ بصغار المودعين، إضافةً إلى الإصلاحات الهيكلية والبنيوية ومكافحة الفساد، بدءاً بالتدقيق الجنائي، فإنَّ تصريح رئيس الحكومة نجيب ميقاتي بعد الانتهاء من جلسة الموازنة يظهر العكس، وكان مؤلماً إلى درجة انتشار تعليقات في وسائل التواصل على طريقة "المضحك المبكي". 

لقد رأى ميقاتي أنَّ "الإصلاحات ستكون موجعة، لكنْ هناك ضرورة للمرور بها للخروج من النفق"، داعياً اللبنانيين إلى "التعاون مع الحكومة لوقف الانهيار والعمل على إنجاز خطوة للتعافي". مضيفاً أن "هذه الإصلاحات ليست مطلوبة من صندوق النقد الدولي فقط، بل هي مناسبة لإنقاذ لبنان من الانهيار أيضاً".

إنَّ تحمّل اللبناني من أجل إنقاذ وطنه هو أقل واجباته، ولكن أن يقول له رئيس حكومته: "الدولة لا تستطيع أن تعطي كهرباء ببلاش، واتصالات ببلاش، لأن ما في مصاري، وإذا قال المواطن: أموالي في المصارف، سنقول له: معك حق، بس علينا أن نتحمل بعضنا البعض"، فهنا تكمن المعضلة الرئيسية! 

كيف تحتجز الدولة أموال المودعين في المصارف، في الوقت الذي هرّب مسؤولوها أموالهم إلى الخارج. وفي المقابل، تطلب منهم القيام بالتضحيات من أجل وطنهم لبنان؟ كيف تريد من المواطن أن ينفق لشراء حاجاته ودفع ضرائبه، وأن يقف إلى جانب دولته لتطبيق الموازنة، فيما يحتجز مصرف لبنان ودائعه، ويمارس عليها أيضاً الاقتطاع المصرفي؟

عندما وضع العالم البريطاني تشارلز داروين نظرية التطور قبل 165 عاماً، لم يكن يعلم أنّ هناك حكاماً في لبنان سيطبّقونها من خلال شعاره "البقاء للأقوى". المقصود هنا هو البقاء لمن يستطيع التأقلم مع موازنة استقوت على الضعيف دون القوي، وفتّشت عن تمويل نفقاتها من جيوب الناس الفارغة؛ فبعدما حُجزت أموال المودعين في المصارف، مارس حاكم مصرف لبنان رياض سلامة عملية "الهيركات" على الأموال، عبر سلسلة من التعاميم المصرفية، على رأسها 151 و158، التي يجيز فيها سحب الودائع بالعملة اللبنانية على سعر يحدده مصرف لبنان، ويكون حتماً سعراً وهمياً لا يحاكي سعر السوق الحقيقي، وهو ما قضى على أكثر من نصف القيمة الحقيقية لرأس مال المودع في المصارف اللبنانية، الأمر الذي أضعف القدرة الشرائية.

طالب الرئيس ميقاتي اللبناني بالمزيد من التحمّل، من دون أن يطال ذلك كبار المودعين الذين هرّبوا أموالهم في بداية الأزمة، ولما يزالوا، بسبب تقاعس الكتل النيابية (بنية صافية أم لا) عن إقرار مشروع قانون "الكابيتال كونترول"، ما جعل المسؤول يقوم بعملية تهريب الأموال إلى الخارج، بينما يتمّ الحجز على أموال أصحاب الودائع الصغيرة والمتوسطة، من خلال سياسات سلامة. 

لم تلحظ الموازنة توجيه سؤال "من أين لك هذا؟" إلى كلّ من تعاقب على السلطة والوظيفة العام وجنى ثروة غير مشروعة من المال العام، ولم تصدر القوانين لاستعادة المال المهرّب قبل 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019، بل طلب المسؤولون من المواطن أن يتحمّل أعباء موازنة حاكت حجم السرقة والنهب والهدر لأكثر من 30 عاماً، الأمر الذي تسبَّب بدين عام فاق المئة مليار دولار.

على طريقة داروين "البقاء للأقوى"، أتت موازنة الرئيس ميقاتي، وهي ستقضي حتماً على الطبقة المتوسطة في لبنان، وستزيد من الطبقة الفقيرة، فيكون "الأقوى" فقط قادراً على العيش. أما تحديد مفهوم "الأقوى" هنا، فهو ليس كما حدده المفكّر هربرت سبنسر، عندما قام بتعديل فلسفة داروين، مطلقاً عليها اسم "الداروينية الاجتماعية"، إذ اعتبر هربرت أنَّ الأقوى هو "الغني الذي نال ثروته نتيجة نجاحه في الصراع التنافسي الذي بيّن أنَّه الأكثر صلاحية، على عكس الفقير الذي وصل إلى حالته هذه لأنه لم يصلح للبقاء"، لكن على طريقة "الداروينية اللبنانية"، فالأقوى هو الذي فرض موازنة على شعب منهك فقير، بينما هو خارج دائرة التضحيات والمحاسبة والرقابة.

صحيح أنّ لبنان يحتاج إلى موازنة تحاكي طروحات المؤسَّسات الدولية كي يستعيد ثقتها في هذه المرحلة العصيبة، ويحصل على قروض ميسّرة، إلا أنّ المؤكّد أنّ المال الذي نُهب من الخزينة العامة، وهُرّب إلى الخارج، لو تمّت استعادته، لما كان لبنان بحاجة إلى أموال الدعم وقروض المجتمع الدولي.

أخيراً، كان أمام اللبناني فرصة حراك بدأت في 19 تشرين الأول/أكتوبر لمحاسبة المسؤولين على حالة الانهيار، إلا أنّ التركيبة الطائفية والذهنية الحزبية التي تتحكّم في أغلبية الشعب اللبناني منعت الثورة من النجاح. لهذا، لن يكون هناك إصلاح حقيقيّ أو محاسبة، حتى في صناديق الاقتراع، لأنّ الانتخابات النيابية، إن حصلت في أيار/مايو 2022، فستعيد إنتاج نفسها في المجلس النيابي.

عندها، لن يستطيع أحد محاسبة أحدٍ، بل ستستمرّ أزمة هذا البلد أكثر، ما دام هناك غياب لحسّ المسؤولية وغياب للمحاسبة والمساءلة، بعد أن عمدت السلطة إلى كيّ الوعي الوطني عند المواطن. لهذا، ستبقى نظرية داروين تُطبَّق على كلّ موازنة يستحكم فيها المسؤول القوي بالشعب الضعيف وينهكه.