من "النكبة" إلى " العِرقبادة ": قطاع غزّة وحرب المصطلحات والمفاهيم
التداول بالمصطلحات واختيارها ليس ترفاً أو هواية. إنها جزء من مصير الشعب الفلسطيني وحياته ومستقبله. إنها مسؤولية أخلاقية ومهنية في غاية الأهمية.
هل أنت مع فلسطين أم مع الاحتلال الصهيوني لفلسطين؟ إذا كنت مع قطاع غزّة الفلسطيني المُستنزف حتى تجفف الدم، فلا يمكنك استخدام عن قصد أو من دون قصد؛ عن جهل أو شطح، رواية الاحتلال ومصطلحاته وتسمّي بسهولة (وبشحطة قلم) وأحياناً من دون تفكير، الجرائم المُقترفة من جانب نظام المجرم نتنياهو في قطاع غزّة بـ "الحرب"!
بالتأكيد، تتابعون الكارثة التي تجري في قطاع غزّة على كل شاشاتكم، صغيرة كانت أم كبيرة، أم أن قسماً منكم وصل إلى مرحلة الإشباع المرير وتوقف جهاز أعصابه عن التحمل؟
هل ما زلتم تشاهدون القتل الممنهج للأطفال وطحن جثثهم بالجرافات؟ وهدم المستشفيات على من فيها من طواقم طبية ومرضى؟ وقتل النساء وتجريف عظامهن بعد يومين؟ الدفن في لا مقابر؟ وتسطيح غالبية قطاع غزّة وسرقة الركام بما فيه من جماجم لإقامة مخطط الرصيف المخادع؟ هل ما زلتم تراقبون تجويع السكان وتعطيشهم؟ وقتل وشطب عائلات فلسطينية بأكملها؟ وقصف وتدمير مبان تراثية ثقافية ودينية (كنائس ومساجد وجامعات) ومسح الحضارة وتحويل قطاع غزّة إلى معسكر قتل وموت بالإبادة؟ لن أطيل عليكم فقائمة الجرائم أطول ما حصل في التاريخ المعاصر، وبالتأكيد منذ قرن وأكثر. هل لدى الفلسطينيين سلاح بحرية؟ أم سلاح جو؟ أم سلاح مدفعية ودبابات ومنظومة صاروخية متطورة وأخرى لإسقاط صواريخ الاحتلال لكي تطلقوا عليها اسم "حرب"؟
هل لدى الفلسطينيين جيش نظامي تراه يحارب "جيش" الاحتلال، كما هي الحرب بين روسيا وأوكرانيا؟ هل هذه حرب؟
في محاولة مدروسة من الحركة الصهيونية ومنذ 1948 وما قبل (تسمية محرقة أوروبا بالهولوكوست وهي كلمة يونانية Holokauston وتعني حرق الأضاحي وتقديمها للآلهة) والحركة الصهيونية تسمّي جرائمها بـ "الحرب"، وذلك لخداع الرأي العام ومحاولة الاستحواذ على العقول لإيجاد قاعدة مناصرة لروايتهم المختلقة، وتصوير نهبهم لأرضنا وسلبهم لتراثنا كصراع "شرعي" بين حقّين. هكذا يتقبل العالم رواية من يسبق في كتابة التاريخ لكي يتحول النهب والقتل، وذلك بعد عملية التضليل الإعلامي وضخ "أسطورة الحياد" وتحويلها إلى وجهة نظر وليس كقضية حق عادلة يجري فيها الصراع بين القاتل والضحية، بين السارق والمنهوب.
إذاً، وكما ذكر المؤرخ والفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو(1926-1984) فإن الحقيقة موجودة بوفرة ويجب معرفتها (في حالتنا، حقيقة أنها ليست حرباً وإنما تطهير عرقي وإبادة جماعية)، ومع ذلك، فإن العقل البشري لدى بعض الناس، ولأسباب عديدة تتراوح من مستوى التثقيف والعلم والتخصص وإلى أسباب ذاتية غير موضوعية وأحياناً أنانية إضافة إلى تأثير عدد من الكبت والعقبات النفسية الأخرى، لم يتمكن من رؤية الحقيقة بعد، رغم أنها حوّلت لون غروب الشمس فوق بحر غزة إلى دموي قاتم.
وبما أننا نرفض تقبل حقيقة ما نشاهد عبر الشاشة بهذا الكم وهذه الكثافة من الجرائم ضد المدنيين الفلسطينيين، والتي زعزعت أركان إدراك كل إنسان أخلاقي، فإننا نرفض أن نكون سلبيين كسولين أو خاملين مهزومين نبتلع أساطير الصهاينة، تلك الأساطير الوهمية والمحبوكة بمكر إجرامي، وأن نسمح لها أن تمر من أمامنا لتهبط في النخاع الشوكيّ العربي كما حصل في الماضي. ولذلك، علينا محاربتها وفضحها وعدم التوقف عن تعميمها ونسبها إلى مقترفيها. أفادتنا وسائل الإعلام أنه ورغم الدعم الألماني الإجرامي للاحتلال الصهيوني، فقد صرخت وزيرة الخارجية الألمانية في مكالمة مع السفاح نتنياهو عندما أنكر إحداث مجاعة في قطاع غزّة.
وعليه، وبما أننا نرى أن السردية والمصطلحات هما عمود أساسي من حرب النفوذ والقوة والوجود، فقد قررنا ألّا نترك الساحة لسرديتهم المقززة، واقترحنا بعد البحث والدراسة استعمال مصطلح "العِرقبادة " (العرق: من التطهير العرقي وهي جريمة محددة؛ وإ / بادة، من "إبادة جماعية" وهي أكبر الجرائم وقد تداولت محكمة الجنايات الدولية فيها بإسهاب عند استماعها للطاقم الجنوب أفريقي في لاهاي "العِرقبادة " بالإنكليزيّة: CleansOcide (Ethnic Cleansing & Genocide).
نشير إلى أنه عندما اقترح الراحل الدكتور قسطنطين زريق مصطلح "النكبة" في كتابه "معاني النكبة"، كتب في المقدمة: "لا أدّعي أني في هذه الدراسة المقتضبة لمحنة العرب في فلسطين، قد اخترعت البارود (أو بلغة هذا العصر القنبلة الذرية) أو أني اكتشفت الدواء الشافي لعلاتنا جميعاً"! لم يعرف الدكتور قسطنطين أن عملية تبني مصطلح "النكبة" ستكون تدريجية وستدخل سجالات مريرة تستمر لعقود، وعبر العقود ستُشن حروب المصطلحات والمفاهيم والتي بدورها ستستمر لعقود إضافية.
إن التداول بالمصطلحات واختيارها ليس ترفاً أو هواية. إنها جزء من مصير الشعب الفلسطيني وحياته ومستقبله. إنها مسؤولية أخلاقية ومهنية في غاية الأهمية. فها نحن ما زلنا نصارع حتى بعد مرور 8 عقود على الكارثة الفلسطينية لنعرّفها بـ "النكبة". وحدث ذلك في صيف 2023 عندما رفض متحف بريطاني وضع مصطلح "النكبة" في موقعه الإلكتروني عندما نظّم معرضاً عن التطريز والأثواب الفلسطينية.
وبما أن الاحتلال يمارس دوماً "صناعة المعرفة الصهيونية" وينظم مجموعة مصطلحاته للضخ الإعلامي، وبما أنه مبني على أيديولوجية كولونيالية استغلالية رأسمالية لقهر الشعوب الأصلية التي يحتلها، نشير إلى أن هذه "الأيديولوجيا" هي بمنزلة منظومة أفكار استعلائية وسياسات فاشية وتصرفات إجرامية تحتاج إلى رواية تشمل السردية واستعمال مصطلح "حرب" في وصف ما يقترفه الاحتلال، وعلينا رفض تزوير الماضي والحاضر والمستقبل وكتابة التاريخ بمصطلحاتنا. إذاً، هي عملية تحرر من الاستعمار الفكري الذي يتطلب جرأة رفض مصطلحات الحركة الصهيونية، وبالتالي روايتهم المزورة التي غلّفوها وسوّقوها للعالم في فترة ما قبل وسائل التواصل الاجتماعي، كما علينا الانقضاض من جهتنا على فرض مصطلحاتنا نحن على الرواية الإعلامية وسردية الذاكرة والنص التاريخي. كل هذا لكي نُغير حركة التاريخ ونستعيد حبنا وإن طال الزمان ولن يطول.
منذ عقدين ونحن ندرس عن ترابط رأس المال الجشع الذي يسعى وراء الربح الإجرامي، وأنه يرتبط بتطبيق التكنولوجيا للسيطرة على المجتمعات وتتبع نموها وتصرفاتها. وبما أن قطاع غزّة يخضع لأعلى نسبة من تنوع الجرائم التي تعتمد على التفوق التكنولوجي الصهيوني (منها القتل عبر متابعة "السيم كارد" في جهاز الموبايل أو الاغتيال الممنهج عبر تطبيق تقنية الذكاء الاصطناعي وكشف الوجوه)؛ وبما أننا نعيش في عصر سرعة نقل الحدث والضخ المكثف للمعلومات، بواسطة وسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت وبكثافة غير مسبوقة ساحة للصراع (المشهدي بالأساس) مع الاحتلال، فكلنا أمل أن يتم تبني مصطلح العِرقبادة CleansOcide واستعماله بوتيرة سريعة.