معادلة فلسطين: شعب ومقاومة
ما جرى ويجري في الأراضي المحتلة من عمليات بطولية، ودفاع المرابطين عن المقدسات والمسجد الأقصى، ليس مصادفة، بل يأتي استكمالاً للمشهد الفلسطيني في التحدي والصمود.
شيباً وشباناً لبّوا نداء الجهاد والرباط. هتفوا "لبيك يا أقصى"، لعلّ المُتفرج يرى ويسمع ويزيل عن ثوبه غبار التطبيع، ولكن لا حياة لمَن تنادي. وحدهم المرابطون المقدسيون أفشلوا مخططات الاحتلال زمانياً ومكانياً بالسيطرة على المسجد الأقصى، وأسقطوا معه ذكرى استقلال كيانهم الهش والمهزوم على أنقاض نكبتنا. إننا نشهد اليوم بداية فجر الحرية، مع تقريب عقارب الساعة للعودة إلى ديارنا.
"لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين، قالوا: يا رسول الله وأين هم؟ قال: ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس". ما جرى ويجري في الأراضي المحتلة من عمليات بطولية، ودفاع المرابطين عن المقدسات والمسجد الأقصى، ليس مصادفة، بل يأتي استكمالاً للمشهد الفلسطيني في التحدي والصمود، بتغيير الوضع المحوري إلى مصيري، أي تحرير فلسطين كل فلسطين.
كل مَن شاهد من شاشته الصغيرة أو في العالم الافتراضي، لمس كيف أذلّ حماة الأقصى المقتحمين الصهاينة، وكيف دخلوا مرعوبين من صوت التكبيرات وحناجر الأبطال الذين هتفوا "نحن رجال محمد ضيف" و"جيش محمد سوف يعود"، إلى جانب صواريخ المقاومة التي منعتهم من الاحتفال بذكرى استقلالهم المزعوم، وممارسة طقوسهم التلمودية.
للحظات، تلذذنا طعم الانتصار، ولو لوقت قصير، إذ كنا أمام مشهد ملحمي أسطوري مرتبط بصمود أصحاب الحق مع توسع رقعة المقاومة الفلسطينية جغرافياً إلى خارج غزة، وأن المواجهة القادمة ستكون على أكثر من جبهة، لتسجيل المزيد من الانتصارات.
إذا كان العدو مصراً على مخططاته لتقسيم الأقصى زمانياً ومكانياً، فهو مخطئ في حساباته، لأن المعادلة باتت بيد الشعب الفلسطيني. هم وحدهم يمتلكون قرار فتح الجبهات مكانياً وزمانياً وقلبها رأساً على عقب، للدفاع عن كل شبر مُحتل من حي الشيخ جراح، مروراً بحي سلوان والنقب، وصولاً إلى نافورة الشهداء جنين.
العلاقة بين الأراضي المحتلة المنتفضة بعملياتها البطولية وغزة، أصبحت أكثر تماسكاً وتنسيقاً بإرباك العدو. هذا ما جعل من الفلسطيني أسطورة بالفن النضالي، متسلحاً بالحجارة والمولوتوف، ووحدة الإرباك الليلي والصوتي والكوتشوك، إلى الدهس والطعن، وأسرى جلبوع الذين انتزعوا حريتهم بأيديهم الطاهرة، ولا ننسى الأسرى الإداريين الذين وقفوا أمام سلطان جائر ببطون فارغة. وكل مواجهة من مواجهات الأمعاء الخاوية تكللت بالنصر على السجّان حتى أصبحت مدرسة الأمعاء الخاوية نهجاً يحتذى به، بالإضافة إلى العمليات الفدائية التي ضربت قعر "تل أبيب" والأراضي المحتلة، ففي كل عملية إما يرتقي المنفذ شهيداً، وإما يرهق جيش الاحتلال بالبحث عنه. ورغم أن العدو يمتلك قوة عسكرية وتكنولوجية، فإنه يبقى ضعيفاً أمام الفلسطيني المقاوم لعدوٍ بات يُقهر كل دقيقة.
ومن الفن الشعبي ننتقل إلى التكتيك العسكري، إذ بدأت المقاومة الفلسطينية مواجهة العدو باستخدام الرصاص وقنابل يدوية الصنع، إلى صناعة الصواريخ بعد انسحاب "جيش" الاحتلال من غزة، فمعادلة التسليح من الدول الداعمة للقضية، والتي ساعدتها على تطوير القدرات العسكرية، مثل الصواريخ البعيدة المدى والصواريخ المضادة للدبابات. وقد ظهر أيضاً "الكاتيوشا" لأول مرة خلال العدوان الإسرائيلي على غزة في العام 2008، ولحقته مفاجأة كبرى خلال العدوان على غزة في العام 2012، إذ أطلقت المقاومة صواريخ بعيدة المدى من طراز "فجر-5" الإيرانية.
على الرغم من الحصار الإسرائيلي، وجدت المقاومة حلاً بالاستفادة من عقول مجاهديها باستخدام صواريخ محلية الصنع لمواجهة أي عدوان، نذكر منها "بدر-3" و"عياش 250" الذي بلغ مداه 155 ميلاً، بالإضافة إلى صواريخ "الكورنيت" و"سجيل" وسلسلة من أجيال صواريخ الأقصى و"ناصر" و"القسام"، ومسيّرات محلية الصنع يعتبرها الاحتلال الإسرائيلي هاجساً مرعباً في معادلة الجو، حتى بات يحسب ألف حساب إذا حاول فتح نيرانه.
هذا التطور السريع والدقيق والتنسيق بين أروقة غرف المقاومة والقدرات التقنية والخبرات الفنية الخارجية والمحلية، أرهقت الاحتلال وقبّته الحديدية الصدئة التي ينفق عليها "جيش" الاحتلال مليارات الدولارات من أجل الحماية والدفاع. ورغم ذلك، لم تستطع تلبية المطلوب منها فوصلت صواريخ المقاومة إلى ما بعد بعد "تل أبيب".
عملية الردع حققت الكثير من الانتصارات المتتالية على الصعيدين الشعبي والعسكري، وليس آخر مظاهر تفوقها، ولكنه الأحدث، امتلاك المقاومة صواريخ أرض-جو مثل "ستريلا 2" الروسي الصنع والمضاد للطائرات، والذي يحمل على الكتف، فالاحتلال بات محاصراً من قبل المقاومة جواً وبحراً ومن العمليات البطولية أرضاً، وبتنا على مقربة من القول إن تحرير فلسطين من النهر إلى البحر لم يعد مجرد ذكريات يرويها جدودنا، لأننا ببساطة راجعون.