مسارات العراق نحو شنغهاي!

لا توجد خلافات واختلافات وتقاطعات سياسية عميقة بين الدول الأعضاء في منظمة "شنغهاي" تحول دون تعزيز الشراكات الاقتصادية الاستراتيجية وترسيخها.

  • مسارات العراق نحو شنغهاي!
    مسارات العراق نحو شنغهاي!

تزامناً مع انعقاد القمة الـ22 لمنظمة شنغهاي للتعاون في مدينة سمرقند الأوزباكستانية منتصف شهر أيلول/سبتمبر الجاري، انطلقت دعوات من شخصيات ونخب سياسية واقتصادية لانضمام العراق إلى هذه المنظمة، نظراً إلى المكاسب الاقتصادية والسياسية الكبيرة التي يمكن أن يحققها من خلالها على المديين المتوسط والبعيد.

ومن بين أبرز الشخصيات التي دعت إلى ذلك، رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي الذي كتب في حسابه في "فيسبوك": "المنظمة التي تضم اليوم 9 دول عظمى وكبيرة، كالصين وروسيا والهند وإيران وباكستان، إضافةً إلى العديد من دول الشراكة والراغبة في الانضمام والمراقبة... الدول التّسع فقط تمثل أكثر من نصف سكان العالم، والأمر لا يقل أهمية من حيث المساحة والطاقات والثروات... هذه الحقائق وغيرها يجب أن تدفعنا إلى طلب الانضمام رسمياً إلى هذه المنظمة الصاعدة، وذلك للإسراع في نهج توثيق العلاقات مع دول الجوار العربي والإسلامي، ومع الهند واليابان والكوريتين وبلدان وسط وشرق آسيا، وبالطبع مع الصين التي لدينا معها العديد من مذكرات التفاهم والاتفاقات، كالحزام والطريق (طريق الحرير) والاتفاق العراقي الصيني فيما صار يعرف بالنفط مقابل الإعمار".

وتابع: "انضمامنا إلى منظمة شنغهاي بات ضرورياً، وخصوصاً بعدما تقدمت بطلب الانضمام الكثير من الدول، بما فيها العربية، كمصر ودول الخليج. لذلك كله، أدعو الحكومة العراقية إلى الإسراع -وفق القوانين النافذة- إلى طلب الحصول رسمياً على عضوية منظمة شنغهاي، كما أدعو السلطة التشريعية، وفق صلاحياتها، إلى دعم وتسهيل الإجراءات المطلوبة، وأن تنظر كل القوى لهذا الموضوع كمصلحة وطنية عليا وضمانة أكيدة لحاضرنا ومستقبلنا، بعيداً عن الخلافات السياسية".

رؤية عبد المهدي، صاحب العقلية الاقتصادية ذات البعد الاستراتيجي، بخصوص الانضمام إلى منظمة شنغهاي، تعد مكملة لرؤيته لأهمية تعزيز التعاون مع الصين، الذي ترجمه بإبرام اتفاقية شاملة معها حين كان رئيساً للوزراء، وزيارتها على رأس وفد حكومي كبير في أيلول/سبتمبر 2019، ورؤيته بضرورة انخراط العراق في مشروع "الحزام والطريق".

وبعيداً من الخوض والاستغراق في الظروف والعوامل التي عرقلت تنفيذ الاتفاقية العراقية الصينية، وربما تكون ذاتها التي دفعت عبد المهدي إلى الاستقالة من منصبه أواخر عام 2019، ينبغي التأكيد على جملة حقائق جوهرية يمكن في ضوئها تحديد المسارات الصحيحة والصائبة التي يفترض بالعراق أن يسلكها، بصرف النظر عن هُوية الحكومة التي ستتشكّل في المرحلة المقبلة وشكلها.

أولى هذه الحقائق تتمثل بأنَّ ارتهان العراق سياساً وأمنياً واقتصادياً للولايات المتحدة الأميركية بصورة تامة أو شبه تامة بعد إطاحة نظام صدام في ربيع العام 20003، منعه من التقدم إلى الأمام، بل إنه أغرقه في دوامات التناحر السياسي العقيم والفساد، وتعطل قطاعات الصناعة والزراعة، وتدني أو تراجع الخدمات الأساسية، وتهالك البنى التحتية إلى حد كبير.

ولعل مصاديق كل ذلك ودلائله ليست خافية على أي إنسان عادي بسيط، فأزمة الكهرباء التي لم تجد طريقها إلى الحل بعد 19 عاماً، رغم إنفاق ما يتجاوز 40 مليار دولار على هذا القطاع، يعد أبرزها، والأسرار والخفايا الخطرة بهذا الشأن موجودة في جعبة شركة "جنرال إلكتريك" الأميركية التي لم تدّخر جهداً لقطع الطريق على نظيرتها الألمانية "سيمنز".

ثاني هذه الحقائق أنَّ المعادلات والتوازنات العالمية آخذة بالتغير الواضح والملموس من أحادية القطب إلى تعدد الأقطاب، مع رجحان كفة الاقتصاد شيئاً فشيئاً في تحديد مستويات التفوق ومدياته في المشهد الدولي العام، وهذا ما يمكن أن نلمسه جلياً في طبيعة الصراع والتنافس المحموم بين الولايات المتحدة الأميركية والصين. وينبغي للعراق أن يستثمر ذلك التغير بما يحسن أوضاعه الاقتصادية ويعزز حضوره الخارجي، مع الحفاظ على خصوصياته وأولوياته الوطنية.

وثالث هذه الحقائق أن واحدة من أبرز نقاط الضعف أو الثغرات في البنى الاقتصادية لبعض الدول تكمن في اعتمادها بصورة أساسية على مصدر واحد للدخل القومي، وهذا ينطبق على بعض الدول المنتجة للنفط -ومن بينها العراق- لأن ذلك الاعتماد الأحادي يجعلها عرضة لتقلبات الأسعار ومتغيرات الظروف العالمية وتحولاتها، ناهيك ببحث الكثير من الدول الصناعية الكبرى عن مصادر أخرى للطاقة غير النفط تكون أقل كلفة وتأثيراً على البيئة والصحة، الأمر الذي يقلص حاجته إلى النفط على المدى البعيد.

رابع الحقائق هو أن من الخطأ الفادح ربط الاقتصاد بصورة تامة بالأجندات والحسابات السياسية، لأن الواقع السياسي بين مختلف الدول يمتاز بالتقلب وعدم الثبات، فضلاً عن تداخل قضاياه وملفاته وتشابكها على الدوام.

ولعل من اليسير جداً أن نرى في عالم اليوم دولاً وحكومات تتقاطع وتختلف فيما بينها حول العديد من الأمور السياسية، بيد أنها تحرص على ديمومة علاقاتها ومصالحها الاقتصادية المتبادلة، وهذا ما يجب أن تتمحور حوله وترتكز عليه مجمل البناءات الاستراتيجية لبلد مثل العراق، أنهكته الحروب والصراعات والسياسات المتهورة والفتن والمؤامرات على امتداد أكثر من 4 عقود من الزمن، حتى ينهض من جديد ويتخطى مرحلة الضياع والفوضى والتخبط والخضوع لأجندات الخارج التي طالت كثيراً.

ووفقاً للمعطيات العامة، تبدو منظمة شنغهاي هي الأكثر فائدة ومنفعة للعراق، بحكم تركيبتها وأهدافها وحجم تأثيرها وفاعلية أعضائها وحضورهم، فالمنظمة التي أسستها الصين وروسيا وأوزبكستان وطاجيكستان وقرغيستان وكازاخستان مطلع عام 2001، ارتكزت على رؤية اقتصادية عميقة، تمثلت أساساً بالخروج والابتعاد عن منظومة الهيمنة الغربية وكسر المعادلات التقليدية، وهذا ما أتاح لها التوسع فيما بعد لتضم دولاً أخرى، مثل الهند وباكستان، وأخيراً إيران، علماً أن هناك دولاً من قارات مختلفة ترتبط بالمنظمة بصفة مراقب، وتتطلّع إلى نيل العضوية الكاملة فيها. 

الرؤية الاقتصادية العميقة لمنظمة شنغهاي تعززت فيما بعد برؤية أكثر شمولاً وتعبيراً عن حقائق الواقع، عبر تحديد مجموعة من الأهداف، كتعزيز سياسات الثقة المتبادلة، وحسن الجوار بين دول الأعضاء، ومحاربة الإرهاب، وتدعيم الأمن، ومكافحة الجريمة وتجارة المخدرات، ومواجهة حركات الانفصال والتطرف الديني أو العرقي، والتعاون في المجالات السياسية والتجارية والاقتصادية والعلمية والتقنية والثقافية، وكذلك النقل والتعليم والطاقة والسياحة وحماية البيئة، وتوفير السلام والأمن والاستقرار في المنطقة، وهذا يعني في ما يعنيه الاتجاه نحو التكامل بين أعضاء المنظمة.

وتؤشر الأرقام إلى التقدم الكبير الحاصل لدى منظمة شنغهاي خلال أكثر من 20 عاماً من انطلاق مسيرتها، إذ تؤكد بيانات رسمية بهذا الشأن "أنَّ القيمة التجارية الإجمالية للدول الأعضاء فيها ارتفعت من 667.09 مليار دولار أميركي عام 2001 إلى 6.06 ترليون دولار عام 2020، وزادت حصتها من إجمالي التجارة العالمية من 5.4% عام 2001 إلى 17.5% عام 2021، وبلغ الناتج المحلي الإجمالي للدول الأعضاء نحو 23.3 تريليون دولار أميركي، وهو ما يمثل ربع الناتج المحلي الإجمالي العالمي".

إلى جانب ذلك، لا توجد خلافات واختلافات وتقاطعات سياسية عميقة بين الدول الأعضاء في المنظمة تحول دون تعزيز الشراكات الاقتصادية الاستراتيجية وترسيخها. كذلك، إن تباين الأولويات واختلاف الخصوصيات بين بعض الأعضاء لم يقف عائقاً أمام بلورة نقاط الالتقاء وتكريسها وتوسيع مساحات المصالح المتبادلة.

وكما يقول الأمين العام للمنظمة راشد عليموف، "إن المنطقة الشاسعة التي تضم الدول الأعضاء في منظمة شانغهاي للتعاون تمتد من الشمال إلى الجنوب، من القطب الشمالي إلى المحيط الهندي، ومن الشرق إلى الغرب، من ليانيونجانج في الصين إلى كالينينغراد في الاتحاد الروسي، كما يعيش فيها ما يقارب 44% من سكان العالم، وتضطلع بالمهمة الأساسية الخاصة بالحفاظ بشكل جماعي على الاستقرار والتصدي بفعالية للتهديدات الأمنية عبر مناطقنا، وكذلك المسؤولية تجاه ما يعد حالياً أكبر منظمة إقليمية على الأرض. وعن طريق توحيد 4 قوى نووية هي نصف عدد الدول النووية في العالم في منظمة إقليمية واحدة، فإن منظمة شنغهاي للتعاون تشكل رادعاً إضافياً في إطار النظام الذي تم إنشاؤه للحفاظ على التوازن الاستراتيجي للقوة والاستقرار السياسي في العالم".

قد لا يكون متاحاً للعراق، بحكم ظروفه السياسية والأمنية والاقتصادية الداخلية الراهنة وطبيعة الأوضاع الإقليمية والدولية العامة، الانضمام إلى منظمة شنغهاي خلال وقت قريب، بيد أن من المهم جداً الشروع بالعمل على هذا الهدف من الآن، ليؤتي ثماره وتتبلور مخرجاته الإيجابية بعد بضعة أعوام، وليكون ذلك إحدى الخطوات والعناصر الرئيسية لمواجهة أسوأ الاحتمالات وأصعب التحديات المتوقعة، وفي الوقت ذاته، لاستثمار وتوظيف نقاط وعوامل القوة التي يمتلكها العراق بصورة سليمة، بعيداً من الانزلاق من جديد في متاهات المعارك والحروب والصراعات العقيمة، سواء في داخل حدوده أو مع محيطه الإقليمي.