متى تتخلص الصين من "عقدة تايوان"؟
الأشهر القادمة ستحمل معها تطورات كبيرة ومهمة في أوكرانيا، وقد نشهد على إثرها تصعيداً غير مسبوق بين كل من روسيا والغرب، في وقت ستكون الصين أكثر المترصدين والمتأهبين لما ستؤول إليه الأوضاع العسكرية هناك.
يقول الجنرال الأميركي دوغلاس ماكارثر في إبان نهاية الحرب العالمية الثانية، "تايوان هي عبارة عن حاملة طائرات لا يمكن إغراقها". مذاك والولايات المتحدة الأميركية تعمل على دعم تايوان عسكرياً واقتصادياً وسياسياً لتجعل منها قاعدة غربية ضخمة على مقربة أميال قليلة من جمهورية الصين الشعبية.
تعدّ تايوان من أهم الجهات الرائدة في عالم التكنولوجيا، إذ تحتل المرتبة الأولى عالمياً في صناعة الرقائق الإلكترونية وأشباه الموصلات التي تستخدم في صناعة الكمبيوترات وأجهزة الاتصال والإنترنت. وهي تصدر ما يزيد على 50% من احتياجات العالم من هذه المنتجات، ويشكل هذا القطاع نحو 70% من ناتجها المحلي.
هذه الجزيرة الصغيرة نسبياً بالمقارنة مع مساحة الصين، إذ تبلغ مساحتها 36ألف كيلومتر مربع وعدد سكانها 24 مليون نسمة، لطالما عُدّ موقعها الجغرافي الحسّاس في المحيط الهادئ مبرّراً لوجود السفن العسكرية الغربية في منطقة بحر الصين الجنوبي، لتفصل الصين جغرافياً عن بحرها الشرقي.
تايوان، وبسبب محاولة استقلالها عن الصين، حرمت الأخيرة إلى الآن من السيطرة كلياً على مضيق لوزون الذي يربط بحر الفلبين وبحر الصين الجنوبي، والذي يعدّ حيوياً لكل من اليابان وكوريا الجنوبية، إذ تمر عبره أغلب تجارتهما نحو العالم.
انطلاقاً من أهمية جزيرة تايوان الجغرافية والاقتصادية لكل من أميركا والصين، شهدنا منذ أشهر قليلة اشتباكاً إعلامياً وسياسياً بين العملاقين بشكل ملحوظ، فبعد اشتعال الحرب بين روسيا وأوكرانيا في ربيع العام الماضي، كثر الحديث عن قرب قيام الصين بخطوة مشابهة للعملية العسكرية الروسية؛ لتعيد تايوان إلى موطنها الأصلي.
في عام 1971، وخلال زيارة سرّية قام بها مسؤول الأمن القومي الأميركي في حينها هنري كسينجر إلى بيكين، طالبت إدارة نيكسون الصين بمساعدتها في الخروج من المستنقع الفيتنامي، وبفكّ ارتباطها بالاتحاد السوفياتي، وقضايا أخرى متعلقة بدول شرق آسيا، لكن ردّ المسؤولين الصينيين كان واضحاً ومحدداً "نريد تايوان، إذا لم تساعدونا في استعادتها، فلن يكون بمقدورنا تطوير العلاقات معكم وحل المشكلات العالقة بين البلدين." كما دوّن كسينجر في مذكراته.
عاد كيسنجر إلى واشنطن، وبدأت بعدها مرحلة تطوير تايوان لتصبح على ما هي عليه اليوم كإحدى أهم المناطق الاقتصادية عالمياً، ومن أهم النقاط العسكرية الغربية المتقدمة على مشارف الصين.
ما سبب اهتمام الولايات المتحدة الأميركية بتايوان؟
أولاً، كما ذكرت سالفاً، فإن تايوان هي أهم مصدّر لأشباه الموصلات والرقائق الإلكترونية إلى أهم الشركات الأميركية في عالم التكنولوجيا.
وهنا، تجدر الإشارة إلى أن واشنطن عملت مؤخراً بالاتفاق مع أهم شركة عالمية في هذه الصناعات، وهي تايوانية بطبيعة الحال، على إنشاء مصانع لها في ولاية أريزونا الأميركية، في محاولة منها للمنافسة عالمياً في هذا القطاع، ولتجنّب أي آثار اقتصادية سلبية في حال شنّت الصين حرباً على تايوان في الأعوام القادمة.
ثانياً، فإن السبيل الوحيد لكل من أميركا وكوريا الجنوبية واليابان لمشاركة الصين السيادة على مضيق لوزون والممرات المائية في المحيط الهادئ هو عبر الاحتفاظ بتايوان، وعدم التنازل عنها للصين تحت أي ظرف.
كان للغموض الإستراتيجي الذي اتبعته واشنطن بشأن قضية تايوان أثر إيجابي من وجهة النظر الغربية، إذ ساهم في تطوير الظاهرة التايوانية لتصبح منافساً اقتصادياً في عالم التكنولوجيا للصين خاصة، وتهديداً عسكرياً لا يستهان به في حال نفّذت الصين وعودها باسترجاع تايوان إلى سيادتها.
ولكن، لنعد قليلاً إلى زيارة كسينجر الثانية إلى الصين، ولكن هذه المرة كوزير للخارجية الأميركية، في حينها، وضع كيسنجر اللمسات الرئيسية لسياسة الغموض الاستراتيجي الأميركية، إذ أبلغ المسؤولين الصينيين بأن على بكين أن تراهن على الوقت في موضوع إعادة تايوان إلى سيادتها، محذراً من أن أي خطوة عسكرية تجاه الجزيرة قد تؤدي إلى عواقب سلبية على الاقتصاد والأمن القومي الصينيين. توازياً، أبلغ المسؤولين التايوانيين وعد واشنطن بدعمهم سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، بالإضافة إلى تحذيره لهم من أي عمل استفزازي تجاه بكين من دون التنسيق مع واشنطن؛ لأن ذلك سيجعل الولايات المتحدة الأميركية غير متأكدة من إمكانية دعم تايوان في حال التصعيد مع الصين.
لا شك في أن الهدف الرئيسي من سياسة واشنطن السابقة تجاه تايوان كانت تهدف إلى تعقيد مهمة الصين استعادة الجزيرة، وزيادة تكلفتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية. في السياق نفسه، تعلم واشنطن بأن قضية استعادة تايوان لا يمكن لأي رئيس صيني التخلي عنها. كما أن الصين اليوم مختلفة تماماً عن الصين التي تعاملت معها واشنطن في مطلع السبعينيات من القرن الماضي.
ما التوقيت الذي قد تراه بكين مناسباً لتحديد ساعة الصفر لبدء العملية العسكرية؟
هنا، علينا أوّلاً وقبل الإجابة عن السؤال، أن نقرأ المشهد العسكري والسياسي في حرب أوكرانيا، فكما بات معروفاً، ما دفع روسيا إلى بدء عمليتها العسكرية في أوكرانيا في شباط/فبراير من العام 2022، كان الاستفزاز الغربي المتصاعد المتمثل بحلف "الناتو" على حدودها مع أوكرانيا. فوجد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نفسه مضطراً إلى التعامل مع هذا الخطر بطريقة عسكرية لا مهرب منها. كما أن واشنطن لم تفاجأ بخطوة بوتين، لا بل هي من دفعته عبر سياساتها في أوروبا إلى اتخاذ قرار الحرب في هذا التوقيت الحسّاس.
كثر النقاش بين الإدارات المتعاقبة في الولايات المتحدة الأميركية حول ترتيب الأولويات في التعامل مع الخطرين الصيني والروسي. قرّرت إدارة بايدن تحييد الخطر الروسي أوّلاً أو إضعافه عبر إشغاله في الحرب، قبل أي انعطافة تجاه الصين والمنطقة المحيطة بها. فقد تعمّد إنهاك روسيا عسكرياً واقتصادياً وعزلها عن النظام العالمي، ليسهل في ما بعد التعامل مع الخطر الصيني من بوابة تايوان.
بما أن التقارب الصيني-الروسي في مواجهة الغرب أصبح أمراً واقعاً، أرادت إدارة بايدن أن تجعل نتائج هذا التقارب ضعيفة، من خلال إضعاف الطرف الروسي فيه. فبعد رفض الغرب انضمام موسكو إلى حلف "الناتو" بُعيد سقوط الاتحاد السوفياتي، كما نُقل عن بوتين بعد زيارته الأولى لواشنطن خلال عهد الرئيس السابق بيل كلينتون، إذ كان الرد السلبي الأميركي لاعتبارات استراتيجية متعلقة بالجغرافيا الروسية الضخمة، ومواردها الطبيعية الكبيرة. فأن تكون روسيا شريكاً في النظام العالمي الذي تسيطر عليه أميركا فهذا لن يصنع منها قطباً عالمياً في وقت محدود فحسب، بل سيجعلها منافساً قوياً لكل من أوروبا وأميركا. وهذا ما لم تكن واشنطن لترضى به على الإطلاق.
أمّا اليوم، فقد أصبحت الصين على مشارف انتزاع الصدارة من أميركا اقتصادياً خلال 7 أعوام على أبعد تقدير. كان لزاماً على الأخيرة أن تضع لنفسها مخططاً استراتيجياً لفرملة نمو الصين اقتصادياً وسياسياً. ولا بد أن تكون تايوان كساحة صراع مستقبلية في صلب جميع مخططات أميركا المستقبلية لمحاصرة الصين وإضعافها. لهذا، شهدنا مؤخراً تزايداً واضحاً في الحشد العسكري الغربي في الممرّات المائية التي تحيط بتايوان، بالإضافة إلى قرار واشنطن بناء أربع قواعد عسكرية جديدة لها في الفلبين.
كيف سيكون الوضع في شرق آسيا وبحر الصين الجنوبي تحديداً بعد معركة الربيع والصيف في أوكرانيا؟
كما بات معلوماً، فإن الحشد العسكري الغربي في أوكرانيا تحضيراً للمعركة القادمة لاستعادة المناطق التي سيطرت عليها القوات الروسية، بلغ حدوداً عالية جداً، إذ إنّ كمّاً هائلاً من الدبابات وصل للتو إلى بولندا وفي طريقه إلى أوكرانيا، ومعدات عسكرية مهمّة أخرى حصلت عليها كييف من دول حلف "الناتو".
لذا، من الواضح أن حلف "الناتو" يبذل جهوداً كبيرة لمساعدة القوات الأوكرانية لإحراز تقدّم عسكري مهم في الأشهر المقبلة، ليعمل بعد ذلك على إجراء مفاوضات سياسية مع موسكو في محاولة لإنهاء الحرب. مفاوضات تريدها واشنطن مخرجاً لروسيا من مستنقع أوكرانيا يعيدها إلى النظام العالمي ولكن، بشروط ومغريات غربية.
إذا افترضنا احتمال نجاح القوات الأوكرانية في استعادة جزء مهم من المناطق التي سيطرت عليها روسيا، عندها ستكون موسكو أمام خيارين أحلاهما مرّ؛
1-أن تعود موسكو إلى البراغماتية وتقبل بالمفاوضات للحدّ من خسائرها العسكرية، ولتجد مع واشنطن مخرجاً دبلوماسياً لحربها الصعبة. حينها، تكون أميركا استطاعت استمالة روسيا بعد إنهاكها في الحرب.
2- وإمّا أن تستمر في الحرب لتتحوّل إلى مستنقع يستنزفها إلى حد كبير، ما يسهل على واشنطن استفرادها في الجبهة الصينية، محيّدة إلى حد كبير أي تدخّل روسي لصالح الصين.
أما في حالة عدم تمكّن القوات الأوكرانية من إحراز أي تقدّم من شأنه أن يمكّن واشنطن من فرض شروطها في مفاوضات إنهاء الحرب، عندها ستضطر أميركا إلى البحث عن مخرج للصراع الدامي الذي إذا استمر إلى وقت أطول في ظل محافظة روسيا على تقدّمها، فقد يستنزفها بشكل كبير مع بقية حلفائها اقتصادياً وعسكرياً. وهنا، سيصبح قرار بكين بالتصعيد تجاه تايوان؛ تمهيداً لاستعادتها، خطوة متقدمة ومحرجة جداً، ليس فقط لواشنطن بل أيضاً للنظام العالمي الذي سيكون أمام منعطف تاريخي بعد الخطوة الصينية ونجاح العملية العسكرية الروسية.
في النهاية، فإن الأشهر القادمة ستحمل معها تطورات كبيرة ومهمة في أوكرانيا، وقد نشهد على إثرها تصعيداً غير مسبوق بين كل من روسيا والغرب، في وقت ستكون الصين أكثر المترصدين والمتأهبين لما ستؤول إليه الأوضاع العسكرية هناك، إذ ستنتظر التوقيت المناسب الذي سيحدّد مآلات معركتها القادمة لإعادة تايوان إلى حضنها.