مؤتمر ميونخ ما بين أضاليل الأمن واستمرار المواجهة

لم تظهر أوروبا أياً من علامات أو دلائل الحياد أو النأي بنفسها عن الولايات المتحدة، أو أياً من إشارات التراجع عن الدعم العسكري لأوكرانيا.

  • مؤتمر ميونخ ما بين أضاليل الأمن واستمرار المواجهة
    مؤتمر ميونخ ما بين أضاليل الأمن واستمرار المواجهة

لم يُثبت مؤتمر ميونيخ للأمن في دورته التاسعة والخمسين، خلال الفترة من 17–19 شباط/فبراير الماضي، وبحضور ممثلين عمّا يقارب 100 دولة من جميع أنحاء العالم، ادعاءاته التأسيسية، وبأن أهم أهدافه تشجيع الحوار حتى بين الخصوم، وبدا مؤتمراً أحادي اللون، وظهر على حقيقته بعدما فقد أدنى درجات المصداقية والحياد السياسي، وفقد معهما هويته كملتقى أمني دولي جامع، بغياب روسيا التي لم تدع أصلاً إلى المؤتمر، ومع ذلك كانت فعلياً أبرز الحاضرين الغائبين، وربما كان غيابها أو استبعادها، بحد ذاته هو "الإنجاز" الأبرز لهذا المؤتمر المسبّق التعليب.

لقد وجد غالبية المشاركين الغربيين في المؤتمر، الفرصة لإظهار إصرارهم على الاستمرار في الحرب على روسيا لأطول فترة ممكنة، وباستمرار دعمهم لكييف وتزويدها بالأسلحة، بهدف منع روسيا من تحقيق الانتصار، وحاولوا إظهار إيمانهم بحتمية انتصار أوكرانيا، وبأن مفاوضات السلام لم يحن أوانها بعد، مع تأكيد ألمانيا "استعداد الجميع لحربٍ طويلة"، والوعود الفرنسية بتقديم "المزيد من الأسلحة". مواقف سرعان ما تبخّرت ونسفتها نصائح ماكرون وشولتز، في اليوم التالي، بدفع المهرج الأوكراني للتفاوض مع موسكو!

ومن خلال المؤتمر، لم تظهر أوروبا أياً من علامات أو دلائل الحياد أو النأي بنفسها عن الولايات المتحدة، أو أياً من إشارات التراجع عن الدعم العسكري لأوكرانيا، بل جاءت "الرسالة" الأوروبية لتؤكد وقوفها واصطفافها الحازم داخل مربّع الحرب الأميركية على روسيا، وسط التظاهرات والاحتجاجات أمام مقر انعقاد المؤتمر، ومطالبة المتظاهرين بإنهاء الصراع في أوكرانيا، وبدء محادثات السلام، معربين عن استيائهم من المؤتمر، وواصفين المشاركين فيه بـ " دعاة الحرب". وفي خلاصة القول، لم يبدُ ميونخ مؤتمراً للأمن، بقدر ما بدا مؤتمراً لإشاعة الفوضى وتسعير الحروب وتدمير الأمن والسلام الدوليين.

بات واضحاً أن الولايات المتحدة استخدمت المؤتمر لتشكيل تحالف موسّع مناهض لروسيا، ولحشد ما أمكنها من حلفاء حلفائها ومن يقعون في مصيدتها، للرد على التصريحات الروسية التي لم تنفك تؤكد انتصار موسكو والرئيس فلاديمير بوتين. فعين واشنطن والناتو والاتحاد الأوروبي، تتطلع إلى الانتصار بمعنى عزل روسيا سياسياً واقتصادياً ومالياً، وتحويلها إلى دولة يرفضها العالم وينبذها، ويحتاج إلى الاقتراب من حدودها عسكرياً، وفرض قواعده الأمنية عليها، وتفتيش منشآتها النووية. وكل ذلك بهدف إخضاعها، وفي هذا الصدد أكد الرئيس بوتين عشية توقيعه على تعليق معاهدة ستارت – 3، بالقول: "يريدون تفتيش منشآتنا الدفاعية، وتسلّق منشآتنا النووية".

وعلى الرغم من فشل الولايات المتحدة في عديد النسخ المشابهة للمخطط والآلية التي تتعامل فيها مع موسكو، والتي سبق واعتمدتها في إخضاع كوريا الشمالية ويوغوسلافيا والعراق وليبيا وإيران وأفغانستان وتركيا وسوريا، إلّا أنها لا تزال تصر على استخدامها، لرخص تكاليفها، ولتوفّر أرخص المفتشين والعشرات من شهود الزور، وكاتبي وصائغي التقارير الأممية المزيفة والمضللة، تحت الرعاية الأميركية بشكلٍ دائم.

الأمر ذاته بالنسبة للصين، فعلى الرغم من التصريحات الأميركية بعد بدء المؤتمر، وبأنها تراقب "السلوك الصيني"، وعن المساعدات المؤثرة والحاسمة التي قدّمتها لموسكو، بما يخالف "تقاليد الدبلوماسية الصينية"، في إشارة واضحة إلى أن بكين تكذب حيال حيادها ومقترحاتها لتسوية الصراع الأوكراني، وبأنها ستقف إلى جانب روسيا، وستمدّها بالأسلحة، وعليه لا يقل سعي واهتمام واشنطن بحصار بكين سياسياً، عن إمداد تايوان بالأسلحة، وبالتنكّر لمبدأ الصين الواحدة، ناهيك عن محاولاتها المستمرة للضغط على الدول للابتعاد عن تعاونها التجاري معها، وبانضمامهما إلى فريق العقوبات عليها.

لم يحقّق مؤتمر ميونخ ما كانت تحتاجه الولايات المتحدة، ولم تنجح بإضافة أي وافدٍ جديد إلى تحالفها الغربي ضد روسيا، وأقله للابتعاد عن الصين، سواء كان وافداً سياسياً أو عسكرياً أو تجارياً، كالبرازيل وجاراتها اللاتينية، والأمر ذاته بالنسبة إلى كازاخستان وأوزبكستان اللتين طالبهما بلينكن لاحقاً بالانضمام إلى فريق العقوبات على روسيا، وتعويضهما بالمال لتعويض الخسائر التي ستنجم عن قطع تبادلهما التجاري معها، كذلك حثهما على الحد من التعاون مع الصين، التي أعلنت صراحةً عزمها على دعم روسيا بشكل أكبر، وساهمت برفع وتعزيز الهواجس الأميركية من تشكيل كتلةٍ روسية صينية إيرانية، تقوم على أساس مقاومة الهيمنة الأميركية والتحالف الغربي.

بات على واشنطن الاقتناع بمكوّنات تحالفها الحالي، وهشاشة قدراته العسكرية، بعدما تأكّد لها وبعد عام من المواجهة الشاملة مع روسيا، أنه غير متجانس ومتآكل من داخله، وغير قادر على تزويد أوكرانيا بالأسلحة والإمدادات، وبالأموال الكافية، وببدائل الطاقة الروسية الرخيصة، لمواصلة تحمّل نتائج وتداعيات الحصار والعقوبات والحروب العسكرية والاقتصادية والمالية على روسيا بمفردها، فكيف الحال بهزيمة روسيا والصين مجتمعتين.