لماذا صرخ رئيس حكومة لبنان.. لقد استنفدنا كلّ شيء؟
كرة الثلج بدأت تكبر متجاوزة حدود التفاقم وكل ما يجري يهدّد بالانفجار في أي لحظة، وهناك بعد من يمارس الكيدية السياسية.
لم يُشح وصول منصة التنقيب عن الغاز إلى البلوك 9 Transocean Barents، بالنظر عن قضية رياض سلامة، الحاكم السابق للمصرف المركزي اللبناني، الذي تربّع على عرش السلطة النقدية مع مدّ اليد على المال العام وعلى أموال المودعين على مدى ثلاثين عاماً، والمُلاحق خارجياً، قبل أن يُلاحق داخلياً، بتهم تبييض أموال واختلاسات من المال العام، زاد عليهما التخلي الكبير الذي أتى من جانب السلطات الأميركية التي لطالما شكّلت الحامي والراعي والمظلة الأكبر "لأفضل حاكم مصرف مركزي في العالم"، كما أطلق عليه في خلال سنوات توليه منصبه.
حاكم مركزي لبنان متوارٍ اليوم عن الأنظار، حكّام لبنان وسياسيوه وأصحاب النفوذ غسلوا أيديهم من دم هذا الصدّيق، والإعلاميون الذين لطالما تغنوا بإنجازاته لقاء أجر مدفوع أوقفوا الغناء وانتقلوا إلى مرحلة العناء والجفاف، ومنذ خروجه من مكتبه في الحاكمية لم يعد يُسمع لأيّ منهم صوت يُدافع عنه بالشراسة التي امتازوا بها على مدى عقود ثلاثة، ربما لأنّ البعض منهم احتاط متحسساً رقابه مع صدور تقرير التدقيق الجنائي بحسابات مصرف لبنان من قبل شركة الفاريز اند مارشال، الذي لم يأتِ سوى على ذكر أسماء محدودة لجهات مولجة بأعمال فنية وشخصيات دعمها رياض سلامة بالقليل، أمام ما وفرّه للشخصيات السياسية ولعدد من أصحاب القرارات التي فعلت فعلها في إنتاج أخطر أزمة مالية في تاريخ لبنان..
لكنّ القلقين في لبنان من التقرير الجنائي كان قلقهم في مكان والتقرير في مكان آخر، حيث لم يأتِ سوى بتأكيد بعض المؤكّد، وبالشكوى من عدم حصول المحقّقين على كل المعطيات التي طلبوها من الحاكم المركزي، حتى استحال عليهم الاستماع إلى أكثر من 40 موظفاً مكتفين بأسئلة وأجوبة كتابياً تمّ حصرها بــ 14 موظفاً فقط.
إذاً تمخض جبل الفاريز فولد فأراً، فضاعت آمال من انتظر نتائجه بفارغ الصبر، وخاب الرابضون لاقتناص اللحظة والفرصة التاريخية فأتت خيباتهم أكبر من مفاعيل التقرير وصفحاته الــ 332، وتمنّوا لو بقيت سرية، فبالسرية يُتاح الكلام مباحاً كان أم غير مباح، وتُنسج الروايات ويسهل نسج القصص والروايات ويستفيض الخيال، ويسيل حبر الأقلام التي لم تجد ربما حدوداً للحد منها...
وسط هذا ما زالت البلاد تغرق في الفراغ، ومن يتولى القيام بالمسؤوليات إنما يقوم بالإنابة، الخارج ينوب عنا في سعيه لاختيار رئيس للجمهورية وفق مواصفات وشروط تعجز عنها مؤسسات المقاييس العالمية، حكومياً رئيس حكومة تصريف أعمال ينوب عن توقيع رئيس الجمهورية ويسيّر حاجات البلاد بالحد الأدنى... مجلس نواب معطّل عن التشريع قبل انتخاب رئيس للجمهورية، حاكم مركزيّ بالإنابة، مدير الأمن العام بالإنابة، وغداً قد نكون أمام قائد جيش بالإنابة إذا طال أمد انتخاب الرئيس أربعة أشهر إضافية....
ثمة من يعتبر أنها قضية وقت قبل أن تتحلّل مفاصل الدولة نهائياً، مع عجز الحكومة عن تأمين حاجياتها بالعملة الصعبة بعد رفض مصرف لبنان تمويل الحكومة بالعملة الصعبة.
ربما صرخة رئيس الحكومة لم تعد تنفع بعد أربعة أعوام من النزف، وأن صرخته بأن حكومته استنفدت كل الأساليب لبقاء البلد واقفاً لم تأتِ من عدم، فقد بلغت أوضاع لبنان مرحلة بالغة الصعوبة والخطورة، وأن ما كان يسمى خطة نهوض ماتت قبل أن تولد لأن موعد ميلادها قد فات، والأمل المتبقّي بصندوق النقد الدولي قد ضاع مع غياب التشريعات الإصلاحية المطلوبة، وبتنا أمام ما فات قد فات.
حين يشكو رئيس المجلس النيابي من عجز عن التشريع بفقدان النصاب لمقاطعة كتل نيابية عن المشاركة في جلسات التشريع، وحين يشكو رئيس حكومة تصريف الأعمال ووزراؤه عن تصريف ما هو ملّح، وحين تشكو القوى العسكرية عن عجزها إطعام جنودها، وحين تشكو وزارة التربية عن عدم القدرة على تأمين العام الدراسي المقبل، ووزير الصحة عن عدم تأمين الدواء الأكثر إلحاحاً للأمراض المستعصية، ووزير العدل عن تلكؤ في قصور العدل، واللائحة تطول... فلمن تكون الشكوى؟
كرة الثلج بدأت تكبر متجاوزة حدود التفاقم وكل ما يجري يهدّد بالانفجار في أي لحظة، وهناك بعد من يمارس الكيدية السياسية...
الخارج يترك للجنة الخماسية المؤلفة من الولايات المتحدة وفرنسا ومصر وقطر والسعودية التي ترسم مشهداً قد لا نجد من يرسم لنا سواه، والامتحان الخطي الذي يجريه المبعوث الفرنسي جان ايف لودريان للكتل النيابية، لن يكون أفضل حال من امتحانات أكثر ملامسة وطنياً واجتماعياً لقضايا الناس وحياتها رسبوا فيها رسوباً مدوّياً...
يلفت أخيراً أن المملكة السعودية التي أقفلت أبوابها ولم توجّه أي دعوة إلى مسؤولين سياسيين لبنانيين، قد وجّهت دعوة إلى حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري، الذي يقول العارفون في كواليس السفارة السعودية أن السعودية تُعّد له جدول أعمال يتضمّن لقاءات اقتصادية. وهذا ما يدعو إلى التساؤل هل أن السعودية في صدد فتح أبواب مساعداتها الاقتصادية أمام لبنان كرسالة دعم للحاكم الجديد، أم أنها مجرد رغبة منها في الاستفسار منه حول مصير المصارف، خصوصاً تلك التي تتشارك فيها رؤوس أموال سعودية، أم حول مستقبل مصرف لبنان، أم الانفتاح على نخب شيعية ببروفايل منصوري.