لماذا انفتحت السعودية على سوريا واستمرت بإدارة ظهرها للبنان؟

لماذا تنفتح السعودية اليوم على كل من إيران وسوريا وتستمرّ في سياسة إدارة الظهر تجاه لبنان وأزماته؟

  • لماذا انفتحت السعودية على سوريا واستمرت بإدارة ظهرها للبنان؟
    لماذا انفتحت السعودية على سوريا واستمرت بإدارة ظهرها للبنان؟

تعدّ سوريا من أهم الساحات المعقّدة التي يشترك ويتخاصم فيها الكثير من الأطراف الإقليمية والدولية، وهذا لم يكن حصراً على سنيّ الحرب الطويلة، بل أيضاً اليوم ومع بداية الحديث عن التسوية فيها، نشهد حراكاً دبلوماسياً نشطاً على أكثر من جبهة، ليكون الانفتاح العربيّ عليها بعد أيام قليلة من مأساة الزلزال، أحد أهم التطوّرات السياسية في المنطقة. 

وبما أن المملكة العربية السعودية هي من الدول المحورية التي كانت ولا تزال تملك تأثيراً كبيراً في الجغرافيا العربية، فقد كان الخبر الذي تناقلته وكالة رويترز منذ بضعة أيام عن أن التواصل السوري-السعودي انتقل من مرحلة التعاطف الإنساني إلى مرحلة عودة السفراء في القريب العاجل بعد قطيعة دبلوماسية استمرت لسنوات طويلة، إضافة إلى أننا قد نشهد في أي لحظة زيارة مفاجئة لوزير خارجية السعودية إلى دمشق التي سبق وأن تأجّلت أكثر من مرّة.

ممّا لا شكّ فيه بأننا نشهد في الأشهر القليلة الماضية تحوّلاً مهماً في نهج السعودية في مقاربة قضايا المنطقة وملفاتها، فبعد افتعال أزمة كبيرة مع قطر مثلاً، عادت بعدها الرياض إلى واقعيتها عبر إنهاء الأزمة ولو أظهرها هذا التحوّل في موقع المتنازل في حينها، كما أنه بعد الاشتباك مع أنقرة لسنوات طويلة وفي ساحات مختلفة مثل ليبيا ومصر وسوريا، عمدت الرياض إلى تطبيع العلاقات مع أنقرة من جديد. 

وفي السياق ذاته، كان حدث توقيع التفاهم الدبلوماسي مع طهران في بكين من أهم الدلالات على أنّ صناعة القرار في السعودية أصبحت تنتهج نهجاً جديداً في سياستها الخارجية. وبما أن الانفتاح على سوريا جاء بالتزامن مع عودة العلاقات مع إيران، فلا بدّ أن نضع الحدثين الدبلوماسيّين في سياق واحد. 

ولكن، لماذا تنفتح السعودية اليوم على كل من إيران وسوريا وتستمرّ في سياسة إدارة الظهر تجاه لبنان وأزماته؟ بينما يعيش لبنان حالة من الانتظار السلبيّ، وسياسيّوه اليوم هم أكثر عجزاً من ذي قبل في التعاطي مع تفاقم الأزمة المعيشية، حيث أنّ الحلول الترقيعيّة من حاكم مصرف لبنان والحكومة الحالية هي أقل قدرة على تخفيف أعباء الأزمة على المواطنين. 

وهذا يكرّس حقيقة أن خروج لبنان من مشاكله تحتاج إلى جهود مضنية وتقاطعات سياسية كثيرة، قد تبدو التسوية فيه اليوم مع عودة العلاقات السعودية الإيرانية إلى طبيعتها ومع الانفتاح العربي على سوريا أقرب من أي وقت مضى، إلا أنّ الأمر في الواقع ليس بهذه البساطة والسهولة، حيث أن السعودية قد تجد في سوريا ما هو أهم وأكثر إلحاحاً مما هو في لبنان.

 سوريا التي لديها سجل حافل بالتعاون السياسي في السابق مع كل من السعودية وفرنسا حول لبنان، قد تجد الرياض انطلاقاً من دمشق حلولاً أكثر استدامة للمنطقة وأقلّ كلفة عليها. وبالتالي بدل أن تقدم المملكة على دفع أثمان كبيرة مرتين، في لبنان ومن ثم في سوريا، قد تكون فضّلت التعامل أوّلاً مع الأزمة السورية عبر تحصين نفوذها فيها ليكون فيما بعد منطلقاً لها لتعزيز وتثبيت مصالحها في كل من العراق ولبنان. 

انطلاقاً ممّا سبق، السعودية اليوم ترتّب أولوياتها بحسب مصالحها الاستراتيجية، فمن الطبيعي أن يكون ملف إنهاء الحرب في اليمن على رأس هذه الأولويات، وبعد إدراكها أن لا حل على حدودها الجنوبية إلّا من خلال العودة إلى الدبلوماسية، أقدمت على العديد من الخطوات التحضيرية التي تجعل التفاوض مع أنصار الله أكثر إنتاجيّة. هنا يعد اتفاق بكين بمثابة اتفاق الإطار الذي ستنضوي تحته تسويات عديدة بداية من اليمن وانتهاءً في لبنان. 

من الواضح أن السعودية مستمرّة في تأجيل البحث في الملف اللبناني رغم رغبة فرنسا بالإسراع في الحل هناك، إضافة إلى غياب الفيتو الأميركي كما صرّحت السفيرة دورثي شيا في إحدى الجلسات، حيث قالت إنّ إدارتها ستسعد في حال تم ملء الشغور الرئاسي في لبنان، وإنها ستتعامل مع المرشّح سليمان فرنجية في حال انتخابه. 

فمن السذاجة أن يعتقد أحد بأنّ لبنان لم يعد على خارطة الاهتمام السعودي، بل يصح القول بأن لبنان لم يعد أولوية، والمملكة لم تنسحب منه بسبب قرار مزاجي من هنا أو هناك، بل هي استخدمت تأثيرها لتثبت حقيقة وجودها فيه في المستقبل، على قاعدة "لست مستعجلة اليوم للحل، ولكن يهمني ألّا يكون هناك حل بصرف النظر عني".

إذاً فإنّ هذه العرقلة السعودية تأتي لأسباب عديدة، أهمها كما سبق وأن ذكرت أنها تفضّل أن يكون الحل في لبنان من النافذة السورية وليس العكس، خاصة وأنه أصبحت هناك قناعة راسخة عند مختلف الأطراف بأن القضية اللبنانية لا يمكن تسويتها إلا بالعودة إلى توازنات الطائف والسين سين. إضافة إلى أن الحلول الاقتصادية في لبنان لا يمكن أن تستقرّ وأن تنجح في ظل حالة عدم الاستقرار في الساحة السورية. 

أمّا السبب الثاني فهو أن التقارب مع لبنان والانفتاح عليه قد يحتّم على السعودية إعادة فتح قنوات التواصل مع حزب الله وهذا ما قد لا تفضّله طالما أن لديها خيار التقارب والتواصل مع الدولة السورية الصديقة والحليفة للمقاومة في لبنان. 

ماذا عن موقف حزب الله من هذا التعنّت السعودي؟ كيف سيتعاطى في الداخل والخارج مع العرقلة لأي تسوية داخلية؟ 

كان واضحاً من خلال أداء حزب الله في الأزمة اللبنانية منذ بداية الانهيار في تشرين الأول/أكتوبر من العام 2019، أنّه يولي أهميّة أكبر للوضع في المحيط بما أنّه البوابة الإجبارية لتجنيب لبنان أثمان الاختلال في التوازنات الإقليمية، فأداؤه في الداخل اقتصر على علاج الأضرار الجانبية لهذا الاختلال عبر التعامل مع المستجدات السياسية والاقتصادية قدر المستطاع. وبالتالي هو ينسّق مع حلفائه الإقليميين ويعمل على تقويتهم عسكريّاً ولوجيستيّاً ليساهم في إرساء نوع من الردع السياسي في الإقليم الذي سينعكس عاجلاً أم آجلاً على الوضع في لبنان. 

لذا لا يرى الحزب أي فرصة ضمن إمكانياته بتكريس أي واقع جديد في الداخل قبل أن تتضح الصورة في الخارج، لهذا هو يتجنّب أي تصعيد سياسي ليبقي الساحة اللبنانية جاهزة لاستقبال أي تطوّر إيجابي إقليمي وترجمته حلاً سياسياً. إضافة إلى أن الكثير من الأطراف في لبنان التي تملك تأثيراً سلبياً في الواقع اللبناني تتصرّف بحسب التوقيت السعودي، وتنفّذ الأجندة السعودية. فبدل أن يخوض معارك مكلفة وصعبة مع هذه القوى، يفضّل الحزب أن يتعامل مع الأصيل الذي سيجبر الوكيل في النهاية على النزول عن الشجرة. 

بالمحصّلة، لدى حزب الله وحلفائه رؤية مرنة لا يستطيع أي طرف داخلي التشويش عليها، هذا بسبب متانة روابطه مع كل من سوريا وإيران. وإنّ هدوءه هذا يقابله توتّر كبير وواضح لدى خصومه الذين لا يمتلكون رؤية واضحة، ومواقفهم السياسية تتبدّل أسرع من المتوقّع. 

عطفاً على ما سبق، فإن المشهد الإقليمي والخارجي يخدم بشكل كبير أهداف المقاومة في لبنان، فإن الانفتاح العربي على أطراف محور المقاومة، سوريا اليمن وإيران، الذي يتزامن مع استعار الأزمة الوجودية في الكيان الصهيوني، والتعارض بين مخططات واشنطن وتل أبيب في ظل حكومة نتنياهو، يساهم بشكل مباشر وغير مباشر في خروج المنطقة من مرحلة الهيمنة الأميركية والإسرائيلية عليها. 

في النهاية، إن الانفتاح على سوريا والحل السياسي المرتقب في اليمن يخفّف على لبنان أعباء الانتظار، رغم المخاطر الاقتصادية والمعيشية التي يعيشها، وبما أن لا خيار للبنان سوى الترقّب، كيف سيتطوّر مسار الأزمة في لبنان ليلتقي فيما بعد بمسار الأزمة في سوريا؟ ما هي طبيعة التسوية السياسية والاقتصادية التي ستتكامل مع التسوية في كل من اليمن وسوريا؟ هل هناك أثمان جديدة على لبنان أن يدفعها من حسابه لكي تكون أرضه أكثر خصوبة لاستقبال ربيع التوازنات الجديدة في المنطقة والعالم؟