لماذا اختارت واشنطن البحرين من أجل قيادة الأمن البحري في الخليج؟
لا يغيب عن الأميركي أن للبحرين موقعاً استراتيجياً مهماً جداً في قلب الخليج.
بعد 11 عاماً من الإقصاء الأميركي للبحرين عن قيادة الأمن البحري في الخليج CTF 152، عادت المنامة في الـ25 من آب/أغسطس/ لتتولى هذه المهام، بقرار أميركي غير عبثي، بل مدروس بشكل كبير يوائم المرحلة والتطورات القائمة، فمن حيث الشكل، يريد البيت الأبيض الإيحاء للبحرين بأن اختيارها يأتي كمكافأة لها على قراراتها المختلفة التي لم تخرج يوماً عن طوع واشنطن، سواء في مسألة التطبيع مع الكيان الصهيوني أو العلاقة بطهران وغيرها، فيما أن النيات الأميركية المبطّنة، تذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، خصوصاً أن قرار المنامة ليس في المنامة، ما يسهّل على واشنطن ومن ثم "إسرائيل" أن تُحكم قبضتها بقوة على جميع الممرات البحرية في الخليج، في هذه المرحلة تحديداً.
تهليل رسمي بحريني لمسألة اعتيادية
منذ تأسيسها في أذار/مارس عام 2004، كواحدة من ثلاث فرق عمل تديرها القوات البحرية المشتركة CMF، فإن الحظ لم يحالف البحرين في قيادة قوة الواجب المشتركة CTF 152 حتى اليوم سوى 3 مرات: الأولى في 4 آذار/ مارس 2008، والثانية في 6 كانون الثاني/يناير 2011، والثالثة في 25 آب/أغسطس الماضي 2022، علماً أن مقر هذه القوة هو في البحرين وتحديداً في الأسطول الأميركي الخامس، وبصرف النظر عن هذا التفصيل، فإنه من المفيد معرفة أن قيادة CTF 152 تمشي وفق نظام تناوب بين الدول المشاركة على أساس ثلاثة إلى اثني عشر شهراً، في حين أن الدول التي قادتها حتى اليوم، إضافة إلى البحرين، هي الكويت والأردن والسعودية والإمارات، فيما مجموعة متنوعة من الدول الأخرى أيضاً تقوم بتخصيص سفن وطائرات وأفراد لقوة العمل، بما في ذلك قطر والمملكة المتحدة والولايات المتحدة وأستراليا.
ولكنّ السؤال المشروع الذي يُطرَح هنا: لماذا رسا الخيار الأميركي هذه المرة على البحرين، بعد أن كانت خارج الحسابات طوال 11 عاماً؟
لنصل إلى جواب مفهوم، لا بدّ أولاً من معرفة أن النظام في البحرين –مقر الأسطول الخامس- يبدي حرصاً شديداً على علاقته بالولايات المتحدة الأميركية، ومنذ ما قبل تعيينه أميركياً في المنصب الجديد –الموقّت بطبيعة الحال– أبدى اندفاعاً كبيراً لمواجهة طهران، ما جعل الأميركي يختارها عام 2019 لتكون مركزاً لعمليات حماية الممرات المائية في مضيق هرمز ومياه الخليج، أو "التحالف الدولي لأمن وحماية حرية الملاحة البحرية" الذي سارعت البحرين إلى الانضمام إليه، لتحذو السعودية حذوها بعد ذلك بأيام جراء ضربات بصواريخ وطائرات مسيّرة استهدفت منشآت أرامكو في منتصف سبتمبر/أيلول 2019 تبنّتها حركة أنصار الله اليمنية.. إلى جانب استضافة البحرين سنوياً مؤتمر "حوار المنامة"، الذي ستنعقد نسخته الثامنة عشرة منه في 18 من تشرين الثاني/نوفمبر المقبل لمدة 3 أيام، والذي كشف المدير التنفيذي للمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في الشرق الأوسط، "IISS"، الفريق الركن متقاعد، السير توم بيكيت، في حديث صحافي، أن إحدى جلساته ستكون، كما في كل عام، مخصّصة لمناقشة الأمن البحري في الخليج والبحر الأحمر، لكن هذا العام سيجري النظر عالمياً إلى قناة السويس، ومضيق هرمز، ومضيق باب المندب، ومضيق ملقا، ومضيق جبل طارق.
لا يغيب عن الأميركي إذاً أن للبحرين موقعاً استراتيجياً مهماً جداً في قلب الخليج، لكنه يعرف جيداً كيف يستثمر البنية الهشة والمتأكّلة في المنظومة الحاكمة هناك، وكيف يلعب على تسويق فكرة أنها "الأكثر استهدافاً من قبل طهران" لتحصيل مزيد من المكاسب. وبعد أن نجح في ذلك، يجري العمل اليوم على تقديم ما يشبه "المكرمات" للنظام صاحب الباع الطيّع والمنقاد لقرارات واشنطن خصوصاً في مسألة التطبيع مع الصهاينة، والذي لا يمانع في خوض أي مغامرة أمنية مهما كانت عواقبها، إذا كان رضى البيت الأبيض في الكفّة الثانية من ميزان الحسابات الدولية.
العبرة في تصريحات "كوبر"
من يتابع التصريحات واللقاءات المتواترة التي أجراها نائب الأدميرال براد كوبر، قائد القوات البحرية في القيادة المركزية الأميركية والأسطول الخامس، تحديداً في الفترة الواقعة بين ما قبل نقل قيادة الأمن البحري في الخليج إلى البحرين وما بعد ذلك، يلاحظ ملامح الأهداف الأميركية المبيتة، فوفق الرجل، ما تركز عليه الإدارة الأميركية، اليوم، هو كيفية التوسع واستخدام التقنيات الجديدة والمتطورة لتوسيع وعيها بالمجال البحري، الذي يسمح بردع أي عمل مزعزع للاستقرار والتعامل معه باستجابة سريعة، من أجل ضمان الأمن البحري الإقليمي، وفق تعبيره.. ليُصار الحديث بعد تسلّم البحرين القيادة عن إحراز تقدّم كبير لتأسيس أول قوة مسيّرات بحرية في العالم، وعن عقد محادثات متفاوتة المستوى مع جميع من وصفهم بالحلفاء في المنطقة، كما بيّن أن أسطول المسيّرات هذا سيشمل 100 منصة بحلول صيف 2023، ويعتمد على تقنية طرحت قبل سنة واحدة فقط..
هذه التصريحات وإن كان يراها البعض مجرّد مواقف صادرة عن مسؤول عسكري أميركي، فهي كشفت الأسباب التي دفعت الولايات المتحدة إلى اختيار البحرين من أجل قيادة الأمن البحري للخليج، بعد أن تسلّمته للمرة الأخيرة عام 2011.. فلا دولة خليجية قد تذعن على نحو قاطع للإرادة الأميركية ومن بعدها الإسرائيلية سوى البحرين بنظامها القائم، العاجز عن الانفكاك عن التبعية، وفق من يتابع المسار التفصيلي لتوجهات المنامة... كما أن الحديث عن "حلفاء المنطقة" يضم بطبيعة الحال الكيان الصهيوني، الذي يسعى الأميركيون اليوم لجعل وجوده أمراً واقعاً في مياه الخليج، على بعد نحو 200 كيلومتر من سواحل إيران الغربية، انطلاقاً من المنامة...
وفي هذا السياق، كشفت هيئة البثّ الإسرائيليّة كان عن أنّ سلاح البحريّة الإسرائيليّة يعمل في الخليج بتنسيق ودعم من الإدارة الأميركيّة، فيما نقل محرر الشؤون العسكرية في "كان" روعي شارون، عن قائد الأسطول الخامس جيمس مالوي، قوله إن سلاح البحرية الإسرائيلي يعمل في الخليج، وأنّ الولايات المتحدة تحرص على تطوير هذه المشاركة..
تسهيلات بحرينية لتمكين البحرية الإسرائيلية
يدرك الإسرائيلي جيّداً كيف يستثمر اتفاقيات التطبيع لمصلحته، لا بسبب حنكته السياسية ولا تخطيطه المحبوك للأهداف الاستراتيجية، بل نتيجة انعدام الوعي السياسي لدى الأنظمة المطبّعة، التي لا تزال تعتقد أن هذه الاتفاقيات هي لمصلحتها بالدرجة الأولى، ولعل البحرين على رأس القائمة..
وبطريقة أوضح، فإن الحفاوة البحرينية بتطبيع العلاقات العلنية مع الكيان الصهيوني فاجأت حتى الإسرائيلي نفسه، الذي لم يكن يحلم بأن يمارس استعراضاته العسكرية في الخليج ومياهه، بيد أنه استطاع أن يشارك عبر سلاح بحريته في التمرين البحري الدولي الأكبر في العالم IMX الذي أقيم في منطقة البحر الأحمر، والمياه الإقليمية البحرينية في مياه الخليج، بقيادة الأسطول الخامس الأميركي وبمشاركة نحو 60 أسطولاً ومنظمة دولية، ووصلت الأمور حدّ إعلان البحرين في شباط/فبراير الماضي تعيين ضابط كبير من البحرية الإسرائيلية بصفة دائمة في المنامة، فيما أكدت القناة الـ13 العبرية أنه سيكون مكلفاً الاتصال بالأسطول الخامس الأميركي، معتبرة من جهة أخرى أن هذا التعيين "تاريخي وغير مسبوق" لمسؤول رفيع المستوى في الجيش الإسرائيلي في منصب رسمي داخل دولة عربية.
هل تتحمل البحرين تبعات التمكين الإسرائيلي من مياه الخليج؟
وبينما يتأكد لمن يراقب المشهد البحريني أن النظام هناك لا يقوى على التمرّد على أي إملاءات أميركية، يأتي التحذير من عواقب هذا الانقياد التام على لسان الإسرائيلي نفسه، ففي شباط/فبراير الماضي، لفت الخبير العسكري "عامي روهكس دومبا"، في مقال له على موقع مجلة "يسرتئيل ديفينس" للعلوم العسكرية، إلى أن الوجود الإسرائيلي على شواطئ البحرين، الذي سيكون بطبيعة الحال تحت مظلة البحرية الأميركية، هو مخاطرة كبيرة من غير المعلوم إن كانت المنامة ستتحمل عواقبها، معتبراً أن "تل أبيب" تخطط لنشر قوة بحرية إسرائيلية في الخليج، وترى في البحرين المكان الملائم الذي يضمن تأسيس موطئ قدم لميناء يحوي السفن الإسرائيلية، بما يتماشى ونظرية ديفيد بن غوريون، التي يتبناها جيش الكيان اليوم، القائمة على فرضية "نقل القتال إلى أرض العدو".
النتيجة من كل ما سبق أن تسليم واشنطن مفاتيح هذه القوة العسكرية للبحرين، هذه المرة، هي مجرّد "جائزة ترضية شكلية" تتوافق وعقلية "المشيخات الخليجية" ليس إلاّ، فيما الهدف الأميركي مهندَس جيّداً ويضع في اعتباره أولاً تمكين الإسرائيلي من مياه الخليج.