لبنان.. "الطائف" يستغيث
سبق وكان للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تصريح مثير خلال زيارته إلى لبنان بعيد حادثة انفجار مرفأ بيروت في صيف 2020، حيث صرّح بأن لبنان بات يحتاج لعقد اجتماعي جديد لحلّ جميع أزماته.
بغض النظر عن نتائج الجلسة الثانية عشرة لانتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية في 14 حزيران/يونيو، وبعيداً عن الغوص في لعبة الأرقام وتحديد من المنتصر ومن المهزوم فيها، لا شك أن هناك حقيقة واضحة بدأ يدركها معظم اللبنانيين؛ مواطنين وسياسيين ومراقبين ومحللين، بأن النظام اللبناني بصيغته الحالية يظهر فشلاً واضحاً في مقاربة الاستحقاقات الدستورية المهمة، ولأن الوضع في لبنان اليوم أسوأ بأشواط من المراحل السابقة التي اعتاد فيها اللبنانيون على فترات طويلة من الفراغ الرئاسي والحكومي، أصبح اليوم هذا الفراغ أسوأ من ذي قبل، إذا ما ربطناه مع الأزمة المعيشية والانهيار الاقتصادي.
فبعد جلسة 14 حزيران/يونيو، أصبح الاصطفاف الداخلي في المجلس النيابي اللبناني أكثر حدّة وأقل قدرة على تدوير الزوايا، فمن دون أي مقاربة مختلفة من بعض القوى السياسية التي ساهمت في هذا الاصطفاف لا بل سعت إليه من خلال ترشيح الوزير السابق جهاد أزعور، لا يبدو المشهد الرئاسي قريباً من الحل.
ولم يعد خفيّاً على أحد أن التيار الوطني الحر كان عرّاب هذا الترشيح، الذي أحدث صدعاً كبيراً في تفاهم مار مخايل. وإن بدا حزب الله مرتاحاً لنتائج جلسة الأربعاء، إلا أنه بطبيعة التوازنات الداخلية غير مرتاح لابتعاد التيار عنه خطوة نحو خصومه التاريخيين.
لا شكّ أن خطوة النائب جبران باسيل بترشيح جهاد أزعور لم تأتِ عليه بالكثير من النتائج الإيجابية، بل على العكس قد يرى البعض أنها أبعدته أكثر عن حليفه القوي لبنانياً وإقليمياً، وجعلته متناقضاً مع خطابه الاستراتيجيّ المتمسّك بالمقاومة وإنجازاتها في لبنان والمنطقة، وهو بدا من خلال خطوته الأخيرة كمن يرمي بنفسه من سفينة متمكّنة من الإبحار إلى سفينة تشوبها الكثير من العيوب وآيلة إلى الغرق.
كما أن نقل أزمة الاستحقاق الرئاسي من الملعب الوطني ككل، إلى ملعبه الداخلي متسبّباً بذلك تمايزاً بينه وبين بعض نوّاب كتلته من مؤسسي التيار، أظهرته ضعيفاً نسبياً في مقاربة مرحلة ما بعد جلسة الأربعاء.
وعليه سيكون التيار الوطني الحر أمام تحدٍ كبير في الأيام المقبلة، من جهة تحديد خطوته التالية، وما سيترتّب عليها من تموضع سياسي لتيار لا يزال يعيش آثار صدمة فشل عهد الرئيس السابق ميشال عون وتراجع شعبيته في الساحة المسيحية والوطنية.
رغم كل التباعد الذي سبّبته خطوة ترشيح أزعور وتقرّب باسيل أكثر من قوى على خصومة مع حزب الله، إلا أنه لا يزال يملك ورقة العودة إلى الحوار الثنائي مع الحزب لمعالجة الجروح والعمل بعقلانية على إعادة مار مخايل إلى سكّته التي أعطت للتيار الوطني الحر ما لم يكن قادراً على الحصول عليه ضمن أي حلف آخر، على قاعدة دفع الضرر أولى من جلب المصلحة.
أمّا في حال استمرار النائب باسيل بتعنّته واعتماده سياسة مضايقة الثنائي وتعميق الفجوة بينه وبين الحزب، فهذا سيؤدي بشكل كبير إلى استمرار الفراغ الرئاسي وشلل النظام اللبناني. وعندها سيعود النقاش حول صلاحية هذا النظام وإذا ما كان لا يزال قادراً على الاستمرار بصيغته الحالية. ولا يبدو أنّ التيار الوطني الحرّ على استعداد لخوض حوار هدفه تعديل النظام، خاصةً بعد تناقص حصته النيابية استناداً لنتائج الانتخابات النيابية الأخيرة.
سبق وكان للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تصريح مثير خلال زيارته إلى لبنان بعيد حادثة انفجار مرفأ بيروت في صيف 2020، حيث صرّح بأن لبنان بات يحتاج لعقد اجتماعي جديد لحلّ جميع أزماته.
وبعد تصريح ماكرون هذا انتفضت الكثير من القوى السياسية اللبنانية التقليدية والتغييرية (مجتمع مدني وقوى 17 تشرين) لتنتقد ما قاله ماكرون رافضة أي محاولة داخلية كانت أو خارجية لإعادة النظر باتفاق الطائف.
ولأن رهان هذه القوى كان على الانتخابات النيابية التي كانت ترى فيها فرصة لتغيير التوازنات في المجلس النيابي الجديد، كانت نتائج انتخابات 2020 صفعة قوية لها بحيث أدت نتائجها إلى تعميق الانقسام وتوسيع رقعته، وما يحصل اليوم من أخذ ورد وتعطيل وشلل في الاستحقاق الرئاسي ما هو إلا دليل واضح على أن الانتخابات ونتائجها لن تسفر عن أي تغيّر في الواقع اللبناني المأزوم.
وبعد مرور أكثر من عامين على تصريح ماكرون ورفض بعض القوى السياسية اللبنانية لفكرة الحوار الذي يعدّل الدستور ونظام الطائف، أطلّ رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع في مقابلة مقتضبة له يتحدّث عن نتائج جلسة الـ 14 من حزيران/يونيو، ليقول؛ علينا إعادة النظر بالتركيبة اللبنانية الحالية، فهي كما هو واضح لم تعد قادرة على النهوض بالبلد.
تصريح جعجع هذا يدل على أمرين:
1-الأول أن علاقة القوات اللبنانية بالمملكة العربية السعودية ليست متناغمة أو أقلّها ليست على النغمة ذاتها. لأنه كما هو معروف، فإن أشد المعارضين لتعديل الطائف أو تغييره هي الرياض وعلى ذلك أدلة كثيرة، وهنا نستذكر تغريدة السفير السعودي في لبنان وليد البخاري، حينما قال قبل أشهر؛ "وثيقة الوفاق الوطنيِّ عقد مُلزم لإرساء ركائز الكيان اللبنانيّ التعدديّ والبديل عنه لن يكون ميثاقاً آخر بل هو تفكيك لعقد العيش المُشترك، وزوال الوطن الموحَّد، واستبداله بكيانات لا تُشبه لبنان الرسالة". كما أن جعجع نفسه سبق وأن رفض تصريح ماكرون وتنصّل فيما بعد من دعوة للحوار سبق وأن دعت إليها السفارة السويسرية في لبنان.
2-ثانياً فإن دعوة جعجع لتغيير التركيبة اللبنانية تدل على استسلامه لمنطق الفراغ مستبقاً أي دعوة للحوار متعلقة بالاستحقاق الرئاسي.
انطلاقاً مما سبق، هل ستعمّم نظرة جعجع على بقية قوى المعارضة؟ وإذا ما افترضنا ذلك، من هي الجهة المناسبة لكي ترعى هكذا حوار وطني شامل؟ وهل باريس لا تزال متحمّسة لإنشاء عقد اجتماعي جديد في لبنان؟ وماذا عن موقف الرياض من إعادة النظر باتفاق الطائف الذي شاركت بهندسته وسبق وأن حقّق لها الكثير من المكاسب السياسية وغير السياسية خلال أكثر من ثلاثة عقود؟
التقى ولي العهد السعودي محمد بن سلمان نهار الجمعة في 16 حزيران/يونيو الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في قصر الإيليزيه، في زيارة رسمية. وتطرّق الطرفان إلى الملف اللبناني خلال نقاشاتهما حول ملفات المنطقة والعالم، وعلى ما يبدو من خلال المسار الفرنسي الحالي تجاه الأزمة اللبنانية حاول ماكرون إقناع محمد بن سلمان بمبادرته التي لا تزال حاضرة على ما يبدو رغم كل العوائق.
وتأتي هذه الزيارة قبل وصول الموفد الفرنسي الجديد الخاص إلى لبنان خلال الأسبوع المقبل. فهل سيحمل معه وزير خارجية فرنسا السابق جان إيف لودريان مقترحاً جديداً يدعو فيه اللبنانيين إلى حوار وطني يكون هدفه إعادة النظر بالنظام اللبناني وإجراء تعديلات مهمة في دستوره وصيغته الحالية، طالما أن لا إمكانية لإنجاز الاستحقاق الرئاسي بالطرق المعهودة؟
وماذا عن موقف حزب الله وحركة أمل بالتحديد من هكذا حوار؟
الجدير بالذكر هنا، أن السيد حسن نصر الله كان أوّل من طرح فكرة عقد مؤتمر تأسيسي جديد قبل عشر سنوات تقريباً في إحدى خطاباته الشهيرة، وفي حينها لاقت فكرته الكثير من الانتقادات والرفض خاصة من القوى والأحزاب والمرجعيات المسيحية.
إضافة إلى أنّ المقاومة في لبنان هي من أكثر الجهات اللبنانية ارتياحاً من حيث موقعها السياسي والشعبي في الدولة اللبنانية. وهي تمتلك الكثير من عناصر القوة التي ستمكّنها من تحسين شروطها في أي حوار مقبل.
ولأنّ لبنان سبق وأن عايش خطوة مشابهة، في عام 1989-1999 حينما اجتمع اللبنانيون إلى طاولة حوار وطني في مدينة الطائف في السعودية بعد ما يقارب الخمسة عشر عاماً من التقاتل الداخلي الذي أسفر عن مقتل ما يزيد عن مئة ألف لبناني، فهل يجب على لبنان أن يمر بالفوضى والتقاتل الداخلي لا قدر الله لكي يصبح الحوار ضرورة وطنية لحل أزماته؟
في المحصّلة، فإن لبنان الذي يتمتّع بالكثير من المزايا الاجتماعية والاقتصادية والجغرافية، أمامه فرصة مهمة لكي يخرج من مستنقع الأزمات المتداخلة إلى مرحلة النهوض والتعافي التي يملك الكثير من الإمكانيات التي تمكّنه من تثبيت الاستقرار وتطوير الدولة والنظام. ويبقى العائق الأكبر اليوم أمام هكذا نهوض، هو ذهنية البعض في لبنان المتمسّكة بالأوهام، وليس الانعزال والتقسيم أسوأها.