قمة كامب ديفيد الثلاثية: مسار جديد لمواجهة الصين وكوريا الشمالية
تهدف الولايات المتحدة، من خلال القمة الثلاثية، إلى طمأنة حليفتيها بشأن مشاريع القوانين الحمائية التي يوقعها بايدن، وآخرها قانون المناخ العام.
انعقدت في منتجع كامب ديفيد في ولاية ماريلاند الأميركية قمة ثلاثية غير مسبوقة، ضمت، إلى جانب الرئيس الأميركي جو بادين، كلاً من رئيس كوريا الشمالية يون سوك يول ورئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا، وذلك في 18 آب/أغسطس الجاري، من أجل تنسيق جهود الدول الثلاث في مواجهة التحديات التي تمثلها كل من الصين وكوريا الشمالية، والتي تَعُدّها مهددة لأمنها القومي، ويزيد في وطأتها استمرار الحرب الدائرة في شرقي أوروبا، والتي تستنزف قدرات هذه الدول ونظيرتها الأوروبية.
أهداف القمة
يأتي انعقاد هذه القمة في ظل تصاعد التوترات والمخاطر في شبه الجزيرة الكورية وبحر الصين ومضيق تايوان، بالتوازي مع النزال الاقتصادي الدائر على صعيد المنطقة، والذي ينذر بتعقيدات كبرى سترخى ظلالها على كل الصعد. وبناءً عليه، يمكن إيجاز أهداف القمة فيما يلي:
1 ـــ توثيق عرى التحالف الثلاثي، الذي تسعى واشنطن لبلورته في منطقة الأندو ـــ باسفيك لحماية منطقة المحيطين الهندي والهادئ، كونها منطقة حرة ومفتوحة، والتصدي لعسكرتها من جانب الصين، كما تروج السردية الأميركية، ومواجهة السلوك الخطير والعدواني للمزاعم البحرية غير القانونية، التي شهدتها الدول الثلاث مؤخراً، من جانب جمهورية الصين الشعبية في بحر الصين الجنوبي، ومعارضة هذه الدول الشديدة أي محاولات أحادية الجانب لتغيير الوضع الراهن في مياه المحيطين الهندي والهادئ، فضلاً عن العمل على إحلال سلاسل توريد جديدة بين الدول الثلاث، والتخلي عن سلاسل التوريد مع الصين، وزيادة التعاون فيما بينها لتصنيع أشباه الموصلات، وفرض قيود صارمة على الصين في هذه الصناعة الحيوية.
2 ـــ تهدف القمة الثلاثية إلى تأكيد التصدي المشترك والحازم لتهديدات كوريا الشمالية، التي رفعت في الآونة الأخيرة وتيرة تجاربها الصاروخية، التي تَعُدّها طوكيو وسيؤول أخطاراً جدية، تتشاركان في الخشية منها مع واشنطن، التي تتمترس خلف موقفها العدائي التقليدي لبيونغ يانغ، التي يجاهر رئيسها بعدائه للولايات المتحدة وللدول التي تسير في ركبها، حيث المناورات المشتركة الأميركية الكورية والأميركية اليابانية، والحديث الدائم عن تحضيرات تجريها كوريا الشمالية لغزو نظيرتها الجنوبية، الأمر الذي سيؤدي حتماً إلى حرب كبيرة ستكون الولايات المتحدة وحلفاؤها رأس حربة فيها من أجل منع سقوط هذه المنطقة الحيوية في قبضة قوى تعمل على تعديل النظام الدولي "القائم على القواعد الأميركية"، والذي تتحكم في دفته الولايات المتحدة الأميركية.
3 ـــ تهدف الولايات المتحدة، من خلال القمة الثلاثية، إلى طمأنة حليفتيها بشأن مشاريع القوانين الحمائية التي يوقعها بايدن، وآخرها قانون المناخ العام، الذي يمنح إعفاءات ضريبية للسيارات الكهربائية المجمعة في الولايات المتحدة، وأنه لن يؤدي إلى الإخلال بقواعد المنافسة بين الحلفاء في هذا المضمار، وأن هذه الخطوة الأميركية تستهدف الصين، في قطاعها الصناعي، الذي ينمو ويزدهر بصورة كبيرة، وبات يُنظر إليها على أنها مصنع العالم.
4 ـــ يُعَدّ تعزيز العلاقات اليابانية الكورية واحداً من أهم أهداف القمة الثلاثية، فالتباعد كان السِّمَةَ الغالبة على مشهد العلاقات الثنائية بينهما، فالوعي الجمعي الكوري لا يزال يفيض بصور بشعة يختزنها بشأن فترة احتلال اليابان شبه الجزيرة الكورية. والتباعد والفتور هذان بين البلدين تَعُدّهما الولايات المتحدة أرضية خصبة للتغلغل الصيني في المنطقة، والاستفراد بحلفائها التقليديين. لذا، لا بد للولايات المتحدة من جمع شتات حلفائها، الذين تحتاج إليهم في منافستها مع الصين في هذا العقد الحاسم.
5 ـــ أظهرت وقائع القمة الثلاثية سعياً حثيثاً لدولها لمأسسة قممها واجتماعاتها، من أجل درء أي احتمالات سلبية في المستقبل، قد يُحدثها أي تغيير في صعيد البنى السياسية الداخلية من قبيل عودة الجمهوريين إلى البيت الأبيض في الانتخابات الرئاسية المقبلة في عام 2024، والساعين للتخفّف من أعباء قيام واشنطن بمهمات الشرطي العالمي، أو التغيير في خريطتي المشهدين السياسيين الداخليين في طوكيو وسيول، والذي قد يحمل معه عودة للفتور والتباعد المزمن بين البلدين.
تدشين حقبة جديدة
عبّر رؤساء الولايات المتحدة الأميركية واليابان وكوريا الجنوبية عن تطلعاتهم إلى حقبة جديدة من الشراكة، وجعل إطار تعاونهم أكثر استدامة، والاستفادة من فوائد التقارب الأخير بين الجارتين الآسيويتين (اليابان وكوريا الجنوبية)، وسط تزايد نفوذ الصين وتهديد كوريا الشمالية المتصاعد. وهذه الشراكة ستقوم على جملة من الخطوات والإجراءات، نوجزها فيما يلي:
1 ــــ التصدي لـ"الأعمال والتحركات العدوانية الخطيرة"، التي تقوم بها الصين، وسعيها للهيمنة على بحر الصين الجنوبي، كونه جزءاً من سيادتها الإقليمية البحرية، مؤكدين أن أي تغيير من جانب بكين في الواقع الجغرافي سيقابَل بمعارضة شديدة، ومحذِّرين من التوتر الذي يرتفع منسوبه في شرقي آسيا بفعل "التهديدات" الصينية. وربط الرؤساء الثلاثة أهمية المحافظة على الأمن والازدهار الدوليين من خلال تأمين الاستقرار والسلام الدائمين لمضيق تايون، وعدم المساس بالوضع الحالي للجزيرة، التي تتعرض لمضايقات ترقى إلى"الأعمال العدائية" من جانب بكين.
2 ـ الدفع في اتجاه تعميق التعاون الثلاثي، أمنياً ودفاعياً، بصورة غير مسبوقة. وهذا ما يستوجب توثيق الصلات الأمنية والتقنية في مجالات الدفاع الصاروخي ومكافحة الإرهاب والأمن السيبراني، وإنشاء خط ساخن للاستجابة للأزمات الإقليمية، نهاية عام 2023. وبالتوازي مع ذلك، يتمّ إطلاق مناورات متعددة المهمّات بصورة سنوية، ومضاعفة جهود تبادل المعلومات بشأن تجارب كوريا الشمالية الصاروخية، وتمتين التعاون الدفاعي على مستوى الأسلحة الباليستية.
اللافت في البيان الختامي هو ما سمي "التزام التشاور والمناقشة المتبادلة والاتفاق الكامل حيال أي تهديدات مشتركة، والمخاطر المتزايدة والنابعة من الصين وكوريا الشمالية"، علماً بأن الدول الثلاث حرصت، في بيانها الختامي، على الإشارة إلى أن اتفاقها ليس معاهدة دفاعية، وأن هذا التعاون الثلاثي المعزز ليس بمثابة "حلف أطلسي في المحيط الهادئ".
4 ـــ أكدت الدول الثلاث التزامها الصارم بشأن قرارات مجلس الأمن الدولي ذات الصلة بتخلي كوريا الشمالية عن الأسلحة والبرامج النووية والصاروخية الباليستية، والتوقف عن تجاربها الصاروخية التي تهدد دول الجوار والأمن الإقليمي والسلامة البحرية، وزيادة الضغوط عليها من أجل دفعها إلى الانصياع للالتزامات الدولية في هذا المضمار، والتصدي الحازم لأيّ إمداد بالأسلحة من جانبها لروسيا من أجل دعمها في "حربها العدوانية" ضد أوكرانيا.
5 ـــ أجمع قادة القمة الثلاثية على أهمية التعاون في مجالات التكنولوجيا والأمن الاقتصادي، بالاستناد إلى الإمكانات الكبيرة والفريدة التي تمتلكها الدول الثلاث، وتعزيز استخدامات الطاقة النظيفة، والتقنيات الحيوية، والمعادن المهمة النادرة والبحث العلمي والذكاء الاصطناعي، بالإضافة إلى العمل الوثيق والتعاون المتبادل من أجل دعم سلاسل التوريد العالمية بنظام الإنذار المبكر، عبر تنسيق السياسات ومشاركة المعلومات حيال الاضطرابات المحتملة، وربط ذلك بالوصول الآمن إلى أشباه الموصلات والعناصر الرئيسة المتطورة، واتخاذ الإجراءات الجماعية لمنع السرقة أو التصدير للتكنولوجيا والتقنيات المتقدمة التي يطورونها، في إشارة واضحة إلى الصين، التي تتهمها الولايات المتحدة وحلفاؤها بأنها تقوم بسرقة التكنولوجيا والتقنيات الغربية.
6 ـــ أكدت الدول الثالث أنها تقف بحزم مع أوكرانيا في مواجهة "العدوان الروسي"، الذي يهدد مرتكزات النظام الدولي، مشددةً على استمرار فرض العقوبات القوية والمنسقة على روسيا، ومواصلة تقليل الاعتماد على الطاقة الروسية، والدفع في اتجاه تشكيل أوسع إجماع دولي حيال اعتماد الحل السلمي للنزاعات واحترام سيادة الدول ووحدة أراضيها.
ختاماً، يمكن القول إن القمة الثلاثية، التي انعقدت في كامب ديفيد، دشنت حقبة جديدة للتعاون، اقتصادياً وأمنياً وعسكرياً، في مواجهة المخاطر المشتركة التي تتهدد منطقة الأندو – باسفيك، كما تراها كل من واشنطن وطوكيو وسيؤول. وقد يتحول هذا التعاون إلى ما يشبه الحلف الدفاعي، تحت مسمى جديد، مثل تحالفي كواد وأوكوس، إذا سارت الأمور إيجاباً بين كل من اليابان وكوريا الجنوبية، وهذا ما تسعى من أجله الولايات المتحدة، لإحداث تحولٍ كبيرٍ في التوازنات الاستراتيجية في منطقة شرقي آسيا، والتي تدور في رحاها مواجهة كبرى مع الصين، في هذا العقد الحاسم، والذي سيؤدي إلى تغييرات بنيوية في النظام العالمي.