قطاع غزة: من خيمة النكبة إلى خيمة العِرقبادة! حكاية واحدة
كلّ أنظار العالم تتجه نحو قطاع غزة، وأعصاب مئات الملايين عبر الكرة الأرضية مشدودة تجاه القطاع الذي تحوّل إلى "مركز الزلزال البشري" الأهم بسبب جريمتَي التطهير العرقي والإبادة الجماعية.
ليست الخيمة في حال قطاع غزة قطعة قماش تمّ تصميمها على أرض غير الوطن. الخيمة في قطاع غزة، وإن تنقّل الفلسطيني نتيجة التطهير العرقي الداخلي (النزوح الداخلي) من مكان إلى آخر، ما زالت الخيمة (وبرغم أنها شعار عدم الاستقرار) تربط وتدها بأرض الوطن. وحبل الخيمة هو الحبل السري الذي يربط الفلسطيني بأرضه ولو كان بخيمة.
لم تمنع إقامتي على بعد 3.600 كم من قطاع غزة أن تتصل بي عائلة فلسطينية صديقة أجبرها الاحتلال الصهيوني مع الكثيرين من الفلسطينيين على الرحيل من بيتها في مدينة غزة إلى مدينة رفح في جنوب القطاع، بأن تتواصل معنا فوراً لطلب النجدة وهي في حالة من الذعر. "قصفوا مكاناً قريب من المنطقة التي نوجد فيها وأبلغونا آمِرين أنه علينا الرحيل قبل منتصف نهار الغد". لكن حالياً إليكم السياق قبل العودة إلى الأزمة.
تختلف متابعتنا للأخبار على مدار الساعة لجرائم كارثة العِرقبادة (الإبادة الجماعية والتطهير العرقي) في قطاع غزة وبالتحديد منذ مطلع تشرين الأول/أكتوبر الماضي لكونها تتفاعل في الفضاء العام مقارنة بمواجهة تحدّ ملموس ومحدّد.
عائلة صديقة قام نتنياهو بحشرها في حالة حرجة يشكّل الخطر عليها مسألة حياة وموت. لم نفكّر بالموضوع بهذه الكثافة قبل العِرقبادة، لكن فجأة تبيّن لنا أنّ لدينا مئات الأصدقاء في قطاع غزة. منهم من جُرح ومنهم من قُتل ومنهم من هو تحت الركام ومنهم من لم نتلقَّ إشارة حياة منهم منذ شهور، ومنهم من تمّ تشريدهم مراراً ولغاية اليوم.
انشغالنا بالحياة اليومية مع شعبنا الفلسطيني في قطاع غزة متشعّب الأوجه ويتمّ وضعه تحت الامتحان مراراً وفي عدة جبهات، فصحيح أننا ركّزنا على الجانبين الأكاديمي والإعلامي منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023 إلا أن كلّ الإنتاج العام الظاهر الذي قمنا ونقوم به دفاعاً عن الشعب الفلسطيني لا يضاهي علاج أزمة واحدة وحيدة محدّدة الوقت والجغرافيا والضحايا والطلب الملموس.
إنّ فعل خير واحداً محدّداً على الأرض (وفي الوقت الحاسم وتحت التهديد بالقصف) يُحدث التغيير وقد يُنقذ الحياة إن تمّ باللحظة الصحيحة؛ وانعدامه قد يؤدي على فقدان عائلة كاملة.
نقول لطفاً دعكم لدقيقة من المساهمات الأكاديمية والإعلامية، وللتعمّق نطرح تحدياً ملموساً تمّ وضعنا أمامه في منتصف أيار/مايو 2024.
قد يوافقني القرّاء الكرام أنه وبحق لا لبس فيه، كلّ أنظار العالم تتجه نحو قطاع غزة، وأن أعصاب مئات الملايين عبر الكرة الأرضية مشدودة تجاه القطاع الذي تحوّل إلى "مركز الزلزال البشري" الأهم بسبب جريمتَي التطهير العرقي والإبادة الجماعية (العِرقبادة) التي يقترفها نتنياهو وعصاباته الإجرامية.
فهذا المجتمع الفلسطيني الغزي هو الأهم لأنه ضحية أكثر الجرائم كثافة والتي تمّ اقترافها بأقصر زمن، كما أنها تتركّز في بقعة جغرافية محصورة صغيرة واحدة. وصحيح أنه تتمّ تغطية التضامن مع فلسطين وقطاع غزة عبر العالم إلا أنّ التغطية تبقى عامة ومن دون الدخول في التفاصيل الشخصية أو الخاصة برغم تأثير الدم على الشاشات.
وهذا ما يجعل الجميع ينسى أو لا يأخذ بعين الاعتبار، ولربما بسبب الضخ الإعلامي المكثّف، تأثير كارثة العِرقبادة على الحالة الاجتماعية والنفسية للمشاهدين أو الأصدقاء أو الأقرباء الموجودين في "الغربة" الشتات. على سبيل المثال، تأثير العِرقبادة على أناس مثلنا مشتبكين من النخاع وحتى الوريد وموجودين بالتحديد في العالم الغربي.
عودة إلى حكاية الأزمة: إذاً، تتواصل معنا عائلة تمّ ترحيلها من قطاع غزة منذ شهور، قُتل من قُتل منها وجرح من جرح وبقي من كان عليه النزوح لرفح. قالت الزوجة: "الليلة الماضية كان القصف في منطقة قريبة منا وقبل قليل أنذرنا الاحتلال أنه علينا مغادرة رفح غداً، وبالتأكيد قبل الظهر/ منتصف النهار".
وأضافت "يجب أن نرحل إلى وسط قطاع غزة (نحو دير البلح مثلاً). لا نعرف كيف سنصل إلى هناك مع العائلة، وهل سنكون من دون طعام وشراب، ولكن بالتأكيد سنكون من دون مأوى. والتحدّي الأكبر قبل الجوع هو ألا نبيت أنا وأولادي وزوجي في العراء". هنا أوقفت من طرفي التكهّن وسألتها: لطفاً، ما الذي تحتاجون إليه فوراً ممّا دعاكم تتواصلون معنا في إنكلترا؟
قالت: نحن بحاجة إلى خيمة نحتمي فيها. كانت سرعة الأفلام التي قفزت من مخزون ذاكرتي ومرّت في مخيلتي البصرية خلال الثواني القليلة التي تلت، أسرع من انشطار البرق. توالت مشاهد فيلم ذروة النكبة في أشهر النكبة عام 1948 من الترحيل المتنوّع عبر البرّ والبحر ولغاية الوصول من مكان توفّر فيه كل شيء في يافا (على سبيل المثال) إلى مكان تقلّصت فيه الحياة إلى تراب خيمة. خيام، خيام، خيام تمّ نصبها لمئات آلاف اللاجئين الفلسطينيين في ذروة النكبة في قطاع غزة ولبنان على وجه التحديد، ولكن أيضاً عشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين تمّ تهجيرهم من يافا والرملة واللد ويبنه والمجدل وغيرها على قطاع غزة.
بعد 76 عاماً يمرّ هؤلاء وغيرهم (نحو 1.5-2.5) مليون فلسطيني في التجربة ذاتها لا بل أكثر مرارة. هذا النزوح القسري الداخلي في عصر العِرقبادة شنيع بقساوة وتيرته لأن أغلب ما تم مغادرته من مبانٍ (حتى وإن لم يكن بيتك) قد تمّ تدميره إما كلياً أو جزئياً، وهو غالباً غير صالح للإقامة فيه إلا إذا كنت من أنصار طرفة بن العبد مُـتَـيّـماً بأطلال خولة، وقد تكون!؟ فحيث تنام يلتصق ثاني أوكسيد الكربون من أنفاسك بجدران البيت وسقفه كما ويتساقط شعر رأسك وجسدك على بلاطه.
سألت: وما الطرق للحصول على خيمة تحت وطأة القصف والتجويع والتعطيش والتهجير في هذه الأيام؟ وقبل أن تجيبني هذه الأم الشابة تشابكت أفكاري راسية على صاروخ صهيوني اختزل أكبر طموح إلى خيمة. فليكن. هذا هو مطلب الساعة للبقاء بسلام؟ هكذا أصبح النزوح عن النزوح مكاناً من "الاستقرار" المؤقت! عدم الاستقرار هذا الذي أصبح جزءاً من هوية الفلسطيني المغتربة عن ذاتها.
قالت: "للأسف من الأمور المؤلمة، أن بعض الخيم التي تصل كمساعدات أصبحت، وبسبب الحاجة، تباع في الأسواق بمبالغ مرتفعة تصل ما بين 2500 شيكل إلى 4000 شيكل (ألف دولار). الحقيقة هي متوفّرة في الأسواق، بالأساس في السوق السوداء مع أناس عاديين. لأنه لم يدخل غزة منذ شهرين أيّ خيمة، وكلّ الخيام الموجودة قديمة.
رغم استمراري بالاستماع إليها فقد توقّفت عن الإصغاء. بدأت أفكاري تحلّق باحثة عمن يمكن أن يساعدهم. من جانبها فهي لم تتوقّف ثانية وقالت: "نحن لا نريد (مصاري) مالاً.
لكن اعتقدنا أنّ لديكم أشخاصاً أو تعرفون مؤسسات يمكن أن تقدّم لنا خيمة"؟ قلت في نفسي إن جرائم كارثة العِرقبادة أثبتت لنا أن من يريد المساعدة ليس بالضرورة أن يكون جاراً!
ماذا يمكن أن يكون وقع طلب كهذا من عائلة فلسطينية في محنة من أكبر المحن في قطاع غزة، على شخص مثلي، وبالصدفة عربي وفلسطيني أصلاً من يافا يقيم في إنكلترا، وشاءت الظروف أنه قبل 37 عاماً (أثناء عملي كصحافي شاب) زفّ ميلاد الانتفاضة الفلسطينية الأولى ومن بين كل بقاع الأرض أطلق عليه النار ولم يُسفك دمه/دمي إلا في قطاع غزة، ولم أُعالج إلا في مستشفى الشفاء؟ لا يمكن أن ينقطع الحبل السري في هذه الحالة فلا تزال الصدمات عالقة أمام أعيننا.
لو كان بالإمكان إرسال المال لأرسلناه، نطق أنفي قائلاً ما بين الحاجبين، ولو كانت المعابر مفتوحة لأرسلنا خيمة من إحدى المناطق الحدودية المجاورة، ولو كان هناك متجر في قطاع غزة يبيع الخيم لاشترينا خيمة وقمنا بضمان النقل.
هكذا أصبحت الخيمة توفّر حلم البقاء على قيد الحياة بالرغم من أنّ عدد الذين تم اغتيالهم عبر القصف والاستهداف في الخيم كثر وكثر. كرّرنا ثانية في ذهننا كمن يحاول الإنسان إقناع ذاته أن الخيمة حالياً (وليس التهجير) هي الحل الأمثل: هذا هو مطلب الساعة للبقاء (بخيمة) وبسلام؟ إذاً فليكن.
بالرغم من رغبة نتنياهو طرد سكان قطاع غزة إلى سيناء إلا أنه لم ينجح بتنفيذ ذلك بأعداد ضخمة. فليست الخيمة في حال قطاع غزة قطعة قماش تم تصميمها على أرض غير الوطن. الخيمة في قطاع غزة، وإن تنقّل الفلسطيني نتيجة التطهير العرقي الداخلي (النزوح الداخلي) من مكان إلى آخر، ما زالت الخيمة (وبرغم إنها شعار عدم الاستقرار) تربط وتدها بأرض الوطن. وحبل الخيمة هو الحبل السري الذي يربط الفلسطيني بأرضه ولو كان بخيمة.
تركنا كلّ مهمة كنا نعالجها وتوجّهنا على الفور إلى مؤسسات وجهات عالمية وإقليمية ومحلية طالبين المساعدة بإيجاد خيمة واحدة لعشر أرواح فلسطينية.
كشف هذا الطلب الصغير ـــــ الكبير عن بنية متعددة الطبقات والمصالح والأجندات من الذين يتكلّمون عن فلسطين وقطاع غزة، وعن ضعف أصحاب الشعارات وأولئك الذين يتبجّحون، وآخرون ممن يتغنّون بخدمة الفلسطينيين.
كانت هذه التجربة امتحاناً قاسياً كشفنا فيه وخلال أقلّ من 24 ساعة عن صدق بعض الناس ومكر البعض، عن كسل شريحة ويأس أخرى، وسطحية بعضهم واستغلال آخرين لمشهد العِرقبادة ككل. وقفنا عن قرب على ضعف مؤسسات عاتية في تقديم مساعدة بسيطة. نطق لسان عقلي: هل يقوم الاحتلال بإخضاع أو إخافة الجميع؟
لم ترَ عيناي النوم كما حصل مراراً منذ تشرين الأول/أكتوبر الماضي. البصر "مبحلق" والعقل محلّق. في ساعة متأخرة من الليل تذكّرت شخصاً ما ظننت أن له علاقة معيّنة وطرقاً لوجستية جيدة قد تجعله يقدّم المساعدة. تواصلت معه من دون أن أطلعه على مطلبي بداية... فردّ فوراً. شرحت له الحاجة الملّحة. بعد أسئلة تقنية عادية (من جهته) وفّرنا عنها الأجوبة فوراً، قال لي: "أرسل لي اسم شخص مسؤول في العائلة ورقم هاتف لطفاً".
ترى هل سيتحرّك ويتابع؟ هل سيتذكّر الحكاية حتى الصباح؟ أرسلت له رسالة أخرى تفيد بأن التحرّك الفوري مصيريّ!
في الثامنة صباحاً بتوقيت لندن أخبرتني العائلة أنّ مندوباً معيّناً تواصل معهم هاتفياً في السادسة والنصف صباحاً بتوقيت فلسطين، أي ساعات قبل النزوح من رفح وإلى وسط القطاع، وقال لهم: "بحوزتنا خيمة لكم"!
اختلط سماع أزيز الرصاص مع الشهيق المتوتر ودموع البهجة ولعاب غريزة البقاء. لكن... كيف التنفيذ؟ هنا حصل لغط غير متوقّع إذ أبلغ مساعد الشخص الأول أن العملية قد لا تتم لأن اسمهم ليس وارداً على القائمة!!!... بينما كنت على خط آخر، فوراً قامت مديرة مكتبي بالتواصل مع الشخص الأول وقامت بتوضيح الأمور.
لم يتبقّ لهم ولنا إلا ساعتان. لم ينزحوا بعد من رفح ولم يستلموا الخيمة. مرّت ساعة أخرى، حاولت التواصل مع الأم والأب، ما من مجيب. هل نزحوا من دون الخيمة؟ هل لديهم فلوس لتعبئة رصيد الهواتف؟ ما هو حال أطفالهم على الطريق؟ بقيت ساعة. انقطع الاتصال. هل انتهى شحن بطارية الموبايل؟ هل المنطقة ما بين رفح ودير البلح من دون تغطية إنترنت؟
تجاوزنا الساعة التي أمر الاحتلال بضرورة النزوح، مكتبنا أصبح كخلية نحل من دون حركة، فالعسل هو الخيمة. قال زميل لنا متهكماً بجدية: علينا إرسال طائرة مسيّرة لنكتشف ما الذي حصل. أصبحت الوجوه شاحبة وارتفع التوتر، يا للرسائل القصيرة كم لها من وقع على عضلات العين والجهاز العصبي.
بعد أربع ساعات استلمنا الرسالة التالية من العائلة: "صديقنا العزيز الغالي. استلمنا الخيمة، وألف شكر من القلب لكم. من القلب دامت المحبة والمعزة والاحترام". انهمرت دموع البعض وابتسم الآخر ابتسامة عريضة حملت أسارير الوجه كثافة الفرح. وصرخت أخرى عالياً!
قلت في نفسي. ألم يولد السيد المسيح في خيمة في بيت لحم؟ من الخيمة وإلى الخيمة نعود، حالياً، صامدون في خيمة لطالما الخيمة على أرض الوطن. لم ينقطع الحبل السري مع غزة ولا مأوى أجمل من خيمة على رمل بحر غزة.
وشاهدت ميسون بنت بحدل الكلبية (زوجة الخليفة الأموي الأول ومؤسس الخلافة الأموية معاوية بن أبي سفيان، ووالدة الخليفة الأموي الثاني يزيد بن معاوية) كلّ الحلقة وأطلقت بيتين من شعرها بدّلنا فيها كلمة البيت بالخيمة:
لخيمة تخفق الأرياح فيها ـــــ أحبّ إليّ من قصر منيف
فما أبغى سوى وطني بديلا ـــــ وما أبهاه من وطن شريف