غزة وحلم "إسرائيل" باليوم التالي

تهدف "إسرائيل" أو تمنّي النفس بأن تجد نظاماً سياسياً فلسطينياً بديلاً لحماس يكون متعاوناً مع نظامها الأمني، ويبسط الرأي الإسرائيلي من قضايا الصراع، ويغير منهاج تعليمه التحريضي، كما تقول.

  • عن
    عن "إسرائيل" التي وجدت نفسها أمام جيل طوفان الأقصى..

أنهت الحرب على غزة يومها الـ286 منذ تنفيذ المقاومة الفلسطينية واحدة من أهم عملياتها العسكرية في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، أعقبتها "إسرائيل" بحرب مدمرة استخدمت فيها كل ما لديها من ترسانة عسكرية، ولوح فيها أحد وزرائها باستخدام آخر ما تبقى من هذا السلاح، وهو السلاح النووي.

تسعة شهور أعلنت فيها "إسرائيل" أهدافاً معلنة وأخرى غير معلنة لحربها المدمرة ضد غزة. ومن الأهداف المعلنة إعادة الأسرى، وتدمير قدرات حماس والمقاومة، وتدمير مقدرات حكومة غزة، وإيجاد حكم بديل لحماس. ومن الأهداف غير المعلنة، تهجير أهالي غزة وقتل أكبر عدد من أهلها وجعلها مدينة غير صالحة للحياة.

ومع دخول الحرب شهرها العاشر، عادت المفاوضات غير المباشرة لإنجاز صفقة تبادل تفضي إلى وقف الحرب، كما جاء في إعلان بايدن. وعلى وقع هذه المفاوضات، سعرت "إسرائيل" حربها في معظم أنحاء قطاع غزة من جنوبه حتى شماله. ويبقى بنك الأهداف الأول هو دماء وأشلاء مدنيين غزة وعزل القطاع الذين لا تتوانى "إسرائيل" عن إرسال حمم نارها على ما تبقى من بيوتهم الآمنة وخيامهم الهالكة.

وبدا للمتابع أن واحدة من العقبات غير المعلنة التي تعتري إنضاج أي اتفاق هو اليوم التالي لغزة، بما يحمل من تفاصيل كبيرة وكثيرة، في مقدمها إعادة فرض القانون والأمن وإعادة النظام الذي بددته حمم "إسرائيل" النارية وإعادة إعمار غزة وتأهيل بنيتها التحية وإعادة بناء منظومتي الصحة والتعليم.

تصر"إسرائيل"، ومن خلفها واشنطن، على أن يكون لها رأي وفعل في هذا اليوم، وتعلن مراراً وتكراراً مكونات السياسة الفلسطينية الفصائلية والرسمية بأنَّ هذا اليوم هو شأن فلسطيني داخلي لن يكون ضمن تفاهمات التهدئة، ولن يكون لإسرائيل دور فيه.

تهدف "إسرائيل" أو تمنّي النفس بأن تجد نظاماً سياسياً فلسطينياً بديلاً لحماس يكون متعاوناً مع نظامها الأمني، ويبسط الرأي الإسرائيلي من قضايا الصراع، ويغير منهاج تعليمه التحريضي، كما تقول، ويكون نظاماً أشبه بحكومة فيشي. ومع مرور أكثر من 9 شهور على الحرب، تعجز "إسرائيل" عن أن تجد شخصاً واحداً يقبل بأن ينخرط في هذا النظام المراد لغزة.

وقد مارست "إسرائيل" حرب تجويع ضد مدينة غزة وشمال القطاع لم يعهدها من قبل، وهي الأكثر فتكاً بالحياة البشرية في العقود الخمسة الأخيرة، لتخلق من هذه الحاجة من يقبل أن يلتزم برؤية "إسرائيل" للحكم في القطاع. 

وعلى عكس ما روجت الماكينة الإعلامية لـ"إسرائيل" بأن حماس تمنع وتهدد الناس وتقتلهم وتحذرهم من هذا المخطط، أكاد أجزم أن واحداً من أهل غزة لم يفكر للحظة أن ينخرط في هذا المشروع، رغم الحاجة الملحة للطعام والشراب، والتي أرادت "إسرائيل" أن تكون مدخلاً للعلاقة مع من أراد أن يكون طرفاً في هذا المخطط.

وبدا أنَّ الذاكرة الإسرائيلية الأميركية ذاكرة سمكية؛ ففي ظروف أقل تعقيداً من هذه الظروف، لم تنجح "إسرائيل" بذلك. ومع توقيع اتفاق أوسلو عام 1993، عملت "إسرائيل" وفق الاتفاق على ضمان إنشاء نظام أمني تكون أولويته هي التنسيق الأمني مع "إسرائيل" لضمان أمنها وتفكيك خلايا المقاومة وإفشال العمليات الفدائية، ولم يلبث أن مرت على هذا الاتفاق سنوات قليلة حتى اندلعت انتفاضة الأقصى عام 2000. وكانت من القوى الفاعلة فيها كتائب شهداء الأقصى، الجناح العسكري لحركة فتح، والتي يعتبر عناصرها قوام الأجهزة الأمنية الأساسي الذي تم تشكيله. وقد كانت انتفاضة مفاجئة لـ"إسرائيل" من حيث قوة التأثير الإبداع العسكري.

 انقلبت "إسرائيل" على هذا الاتفاق الذي فشل في تحقيق مرادها، وبدأت بتقويضه، واجتاحت الضفة الغربية في عملية السور الواقي، ودمرت بالطائرة مقار الأجهزة الأمنية في غزة والضفة.

مرة أخرى، وفي أعقاب أحداث الانقسام الداخلي الفلسطيني عام 2007، أرادت "إسرائيل" وأميركا إعادة تشكيل وتدريب القوات الأمنية للسلطة في الضفة الغربية، على أمل أن يجدوا جيلاً يقبل "إسرائيل" جاراً ومحتلاً في آن واحد، فعينت واشنطن الجنرال كيث دايتون ليعمل على إعادة بناء الأجهزة الأمنية وفق منظور جديد للعلاقة مع "إسرائيل"، تقبلها دولة محتلة وتحارب الحالة النضالية في الضفة الغربية، مهما كان الثمن.

ورغم حالة الإنفاق على هذه المنظومة الجديدة والعمل عليها، فلم تحقق لهم ما كانوا يتطلع إليه دايتون والنظام الأمني في "إسرائيل"، فلم تنجح في وأد المقاومة في الضفة الغربية. وقد حدثت سلسلة عمليات فدائية فردية هي الأقوى منذ عقود ضد المستوطنين في مدن العمق بعد محاولات دايتون. ومع حلول العام 2021، بدأت تظهر تشكيلات عسكرية أكثر قوة وفاعلية ومنظمة، وفي مقدمتها كتيبة جنين التابعة لسرايا القدس، الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، ومثلها في مدن الضفة المختلفة. وقد عادت "إسرائيل" لتشن عملياتها العسكرية الكبيرة، وعادت لتستخدم طائراتها لتدمير المنازل في الضفة الغربية ومخيماتها. وقد فشلت خطة دايتون.

وفي غزة، شنت "إسرائيل" حروباً قاسية ومدمرة وحصاراً فتاكاً لتطويعها، فوجدت نفسها أمام جيل طوفان الأقصى.

 مرة أخرى، تحاول "إسرائيل" عبثاً أن تقنع نفسها بأنها قد تجد جيلاً يمكن أن يقبل بأن يكون أداة مطواعة لإرادتها في حكم غزة وينفذ أجندتها. كل هذا التجارب التي عملت "إسرائيل" وواشنطن على إنضاجها وإنجاحها فشلت، فكيف يمكن لها أن تنجح بعد كل هذا الدم الذي أراقته في غزة؟

إن ما فعلته "إسرائيل" بالقطاع سيجعلها أمام جيل خرج من بين هذه المعاناة أكثر تمسكاً بأرضه وأكثر تصميماً على قتالها وطردها وتحرير أرضه، فقد أثبتت كل التجارب أن الفلسطيني لن يستسلم. ومن بعد كل محنة، يخرج جيل أكثر صلابة.