غزة مقبرة القانون الدولي والإنساني
تشير المقولة الشعبية إلى أن الدم ثقيل على حامله، فكيف إذا كان برقاب حامليه اليوم، دماء عشرات الألوف من الأبرياء المسلوبة حقوقهم وأرواحهم على مدى عمر النكبة؟
لسنوات ستمتد طويلاً سيبقى تاريخ 7 تشرين الأول/أكتوبر وعملية "طوفان الأقصى" في ذهن العالم أن هزيمة مدوية لحقت "بدولة إسرائيل"، مرّغت "جيشها" ومخابراتها ذلاً، فيما التأريخ العالمي سيسجل أن مجموعة عقائدية محاصرة مقهورة، كسرت قيد "أسطورة" ظلمت ودمرت وأحرقت وفعلت كل ما يُغذّي الجحيم..
لكن، أبعد من هذا وذاك، فإن ما تلا هذا التاريخ على مدى 48 يوماً بنهاراتها ولياليها من هستيريا إسرائيلية تدميرية هوت فيها أبراج وأسقف على رؤوس ساكنيها، يتعذر إلى الآن سحب عدد من الجثث تحت ركامها، عدا التجويع وقطع عناصر الحياة، وضع القانون الدولي والإنساني على المحك، وبدأت تطرح تساؤلات مقلقة عن مستقبل هذا القانون، وما إذا كان سيبقى قائماً أم سينهار نظراً للانتهاكات الجسيمة التي ارتكبها العدو الإسرائيلي لحقوق الإنسان والقواعد والمعايير الدولية المتعارف عليها؟ أم أنّ ما مورس بحق غزة من إجرام جعل منها مقبرة لهذا القانون، ومقبرة لزيف ما تتغنى به الولايات المتحدة والدول الغربية في هذا الشأن؟.
حتى الجهد الذي حاول الكيان المغتصب أن يصوّره على أنه صراع ديني ثقافي، علّه يقلب الصورة لصالحه كما حدث في الساعات الأولى لـ"طوفان الأقصى"، بعدما سقط سعيهم وظهر جلياً أن الصراع هو بين كيان محتل ونظام فصل عنصري واستيطاني وبين شعب يتعرض للإبادة.
صحيح أن الوعي الغربي بدأ يتظهر حيال ما يجري، وعادت القضية الفلسطينية لتتظهر من جديد باعتبارها قضية حقوقية مركزية بعدما كاد يطويها النسيان، لكنّ لذلك أثماناً من عشرات ألوف الشهداء والجرحى والمفقودين الفلسطينيين، ولا يختلف اثنان على أن "إسرائيل" لم تربح بعد 48 يوماً من التدمير اللامتناهي سوى ما لا يمكن وصفه إلا بالإبادة الجماعية، وأنها لم تربح لا بل خضعت بمجرد قبولها بهدنة مع حماس وإن عبر وسطاء، بعدما كانت رفعت في أعقاب السابع من تشرين الأول/أكتوبر كثيراً من سقف أهدافها، سواء لجهة سحق بنية حماس وإبعاد الفلسطينيين عن غزة، أو لجهة تحرير الأسرى من دون تفاوض.
رضخت "إسرائيل" مرة جديدة بعد تحرير العام 2000 وبعد عدوان 2006على لبنان، للهدنة في غزة، وأرغمت على التفاوض، وسلمت حماس من اتفق على الإفراج عنهم بلباس عناصر قسّاميها وعلى مرأى العالم كله، ومن قلب غزة بالذات، وبتنظيم لا متناه بعدما ثبت أن هيكليتها وتماسك تنظيمها العسكري لا يزالان قادرين على المواجهة على عكس ما توهم البعض...
لقد كتبت صحيفة "يديعوت أحرونوت" أن "حماس تتلاعب بنا، فهي تحدد وتيرة الصفقة وعدد الأسرى المحررين وما إذا كانت تنوي المضي في التبادل". وثمة من يبرر لـ"إسرائيل" رضوخها لصفقة التبادل والتفاوض، أن ذلك لم يكن من صنع نتنياهو وحكومته بل جاء غصباً عنهم، وأن ما جرى كان بأمر من سيّدهم الأميركي الذي يدير إيقاع المعركة عسكرياً وسياسياً..
خمسة وسبعون عاماً من عمر نشوء الكيان الصهيوني حاولت الولايات المتحدة خلالها تلميع صورة هذا الكيان قدر ما استطاعت، بيد أن مجازر غزة قلبت الصورة وأطاحت عمراً من الزيف والكذب والخداع. وجاءت الحرب على غزة لتشظّي الراعي الأميركي الذي بدا أنه من يخطط ويدير ويشرف مباشرة على التنفيذ، في جريمة العصر، وها هو الرئيس الأميركي جو بايدن الذي نقل أكبر أساطيله إلى المتوسط لدعم ربيبته، والغارق في وحول التحضير لانتخاباته الرئاسية، يتعمد وبعد انتفاضة الرأي العام العالمي ضد المجازر المتمادية بحق الشعب الفلسطيني لعب دور المتابع والثاني لـ"إسرائيل" عن إجرامها، رامياً باللائمة على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي قد يدفع الثمن أميركياً وإسرائيلياً...
وسواء صمدت الهدنة التي مددت يومين إلى الأيام الأربعة وتحوّلت إلى حراك سياسي، أو مضت "إسرائيل" في عدوانها وإجرامها، فإن ما فعلته حماس في السابع من تشرين الأول/أكتوبر يفوق أضعاف ما سجل من عمل فلسطيني على مدى عمر المقاومة، وهو لم يطح عنجهية "إسرائيل" بمخابراتها و"جيشها" فحسب، إنما تعدّته إلى خلخلة منظوماتها وكياناتها الحزبية والسياسية، وإلى "استقرار" مستوطناتها ومستوطنيها، نحو إطاحة رأسها الفعلي نتنياهو، وربما من هو على رأس راعيتها الولايات المتحدة...
تشير المقولة الشعبية إلى أن الدم ثقيل على حامله، فكيف إذا كان برقاب حامليه اليوم، دماء عشرات الألوف من الأبرياء المسلوبة حقوقهم وأرواحهم على مدى عمر النكبة؟
لقد تعمد العدو الإسرائيلي قتل الأطفال الفلسطينيين كي لا يبقى من ينقل الرواية، كما تعمد قتل الصحفيين كي لا تبقى عدسة أو صوت ينقل الصوت والخبر والصورة، لكنه تجاهل أو غاب عن ذهنه أن هيرودس سبقه 2023 عاما ًفي قتل الأطفال كي يتخلص من الطفل يسوع، ولم يحصد مراده، وكان ما كان.