غزة: الحرب وسؤال الصفح
ما يصحو الإنسان في غزة، يذهب إلى شبه النوم، لكن الحرب تبقى دائرة على الأرض، وفي الدماغ، والقلب، وعلى الوجه أيضاً.
يقول الكاتب الفرنسي غيوم ميسو: "ربما تكون نجوت من الموت، بيد أنك تستمر في الشعور بأنك تلوثت، يتأكّلك شعور بالإثم، ويلتهمك الضيق الأصم، ويجتازك السؤال الهائل الذي لن يعرف إجابة أبداً: لماذا نجوت أنت وليس الآخرون؟
أنت وليس ابنك، زوجتك، أبواك...". هذه الكلمات ليست بعيدة عما يجري في قطاع غزة، لأنها الحرب يستمر فيها الإنسان في القتال بطرائق متنوعة وأشكال متعددة، وبقدر ما يستطيع ليبقى في قيد الحياة، لكن من المستحيل ألاّ يتلوث، والأهم من ذلك أن يبقى من دون ألم أبدي، قهر، وظلم. وهنا يسقط سؤال في وعاء الوعي جدير بالإجابة: هل الألم بسبب الحرب يستحق الصفح؟
في سياق ما سبق تُشرع السماء في فتح أبوابها على غزة كل صباح كما سائر العالم، لكن سماء غزة مليئة بكل أنواع الطائرات المحملة بالخوف، وأكثر بالموت، ويبدأ الإنسان في غزة يلعب لعبة النرد مع تلك الطائرات، إذ لربما يخسر بصورة فادحة إلى الأبد من دون أن يستحق أن يرمي حجراً مرة أخرى، بحيث دائماً ما يكون رمي الحجر على الرقعة محفوفاً بالمخاطر. وعلى سبيل المثال هنا: لربما يذهب الإنسان في قطاع غزة للحصول على الطحين من أجل أطفاله الذين لم يموتوا بالرصاص، بل ربما يموتون من الجوع، لكنه يعود جثة، بحيث الصاروخ الذي أطلقته الطائرة أصاب كيس الطحين واختلط بالدم.
في صلب ما سبق يبقى الإنسان في غزة يُجدف في بحر من الخوف، بل في بحر الموت، وأكثر في عالم سحق القيم في سبيل الاقتصاد. لذلك، يأتي الموت من البحر والبر والجو، هذه الموت الذي يحصد كل شيء أمامه. وعلى سبيل المثال: هناك رجل قام بتجميع أشلاء شقيقه في كيس صغير بعد أن أصبحت جثته أشلاء، وآخر قام بتجميع أشلاء طفله الذي كان يلعب أمام الخيمة، وأم جمعت أشلاء طفلها المولود في الحرب داخل دموعها، بحيث الأخير سيبقى شاهداً على أن الإنسانية كذبة إذا لم يكن لها موطئ قدم في فلسطين، إذ فلسطين هي مقبرة الإنسانية.
مع ما سبق عند بدء الحرب تبدأ الجثث تتكدّس، وهنا يعتقد الجميع أن نهاية العالم اقتربت، كما يقول الكاتب ألبير كامو في روايته "الطاعون"، بحيث يشعر الجميع بأن اليوم التالي للحرب هو اختفاء البشرية عن الوجود وبعد ذلك تصبح الحياة ذرات من اللاشيء، لكن هناك شيئاً ما يبقى في داخلهم ينبض بالوجود. لذلك، يقاتلون في سبيل البقاء، إذ في غزة البقاء ليس للأقوى، بل لصاحب الحق، وصاحب الأرض، وهنا يكمن لب القوة. وعليه، عندما يفقد هؤلاء الأمل يبدأ الجحيم، حيث الجحيم في الحرب إذا كان فردياً، قبل ذلك يصبح أمام الموت المطبق بصورة جنونية جماعياً.
هي الحرب تأتي لتُلغي المستقبل، والمشاريع. ومن لم يمت فإنه يبقى ينتظر دوره بمرارة. ويبقى سؤال الخلاص من الحرب هو الأهم، إذ الجميع يُدرك أن دفع الثمن أصبح حتمياً، والحرية غالية الثمن، لكنها شيء سخيف أمام الموت.
وبالعودة إلى الثمن يمكن القول إن المرء عليه أن يدفع حصته بصورة مغايرة عن الآخرين، لكن كل هذه الحصص تصب في وعاء واحد، هو الحرب، وعندما نتحدث عن الحصة ربما نتذكر سعيد _ أحد أبطال رواية "عائد إلى حيفا" التي كتبها غسان كنفاني _ كيف دفع ابنه خلدون كحصة، إذ الأخير بعد أن هاجر سعيد بسبب النكبة كان تركه في المنزل وأصبح بعد ذلك ملكاً لعائلة يهودية، وقامت تلك العائلة بتسميته دوف. وهنا قال غسان كنفاني على لسان سعيد إن "كل فلسطيني سيدفع ثمناً، أعرف الكثيرين دفعوا أبناءهم، وأعرف الآن أنني أنا الآخر دفعت ابناً بصورة غريبة، لكنني دفعت ثمناً، ذلك حصتي الأولى، وهذا شيء يصعب شرحه".
إذاً، تُغلق السماء أبوابها ولا فارق في أن الطائرات المحمَّلة بكل أنواع الخوف، بل الموت، ما زالت تبحث عن هدم السماء. وكما يصحو الإنسان في غزة، يذهب إلى شبه النوم، لكن الحرب تبقى دائرة على الأرض، وفي الدماغ، والقلب، وعلى الوجه أيضاً، إذ الحرب تعني للبعض جوع الأطفال، وفقدان الأم أبناءها الذين هم أعظم إنجازاتها.
وفضلاً عن ذلك فقدان الزوجة زوجها الذي قاتلت من أجله، وتعني للبعض منصباً سياسياً. والأخيرة، إذا جاز التعبير أوسخها. وفي سياق متصل تلتهم الحرب الرجال، حيث الحرب محرقة لأنها لا تتوقف أمام جثة واحدة لتكون القصة، إذ الحرب هي القصة، وتذوب قصص الأفراد، وتُدفن الجثث بصورة جماعية، لكن في قلب كل مكلوم تبقى القصة هي الأجدر بالبحث لها عن موطن. تلك حقيقة لا يمكن اجتيازها.
إذاً هي الحرب، إذ هذه الكلمة هي مرادف للموت، للخوف، للفقدان، للوداع.
وفي سياق متصل، وبالعودة إلى الثمن، هناك من اختار الصمت أمام سحق الجثث بالدبابات، بحيث إن هؤلاء الصامتين يدفعون الثمن بصورة مغايرة، ويعيشون جحيماً من نوع خاص، وخصوصاً أنهم يستمرون في الحياة غير عابثين بما يجري، وربما عليهم أن يبقوا كذلك، حيث ذلك هو العقاب الأبدي لهم.
وبالعودة إلى سؤال الألم والصفح، إذا كان الجواب نعم فيمكننا أن نقول وداعاً للثأر. أما إذا كان الجواب لا فالطريق واضح، لأنه من دون حرب لا يمكن تحقيق نصر، حيث الأولى بسببها استشهد شاب وفتاة داخل خيمة الزواج، إذ كان الحب بينهما فرصة، وفسحة حياة داخل الابتسامة رغم الحرب. ولم يكن يمر على ذلك الزواج سوى أيام قليلة، وكان بينهما طفل مجرد حلم يستحق أن يكون حقيقة، لكن الحرب عدوة الأحلام، وإذا كانت الأحلام بشراً، فإنهم يستحقون الوجود، والأهم أنهم يستحقون الثأر الذي لا يعرف الصفح.