عودة العلاقات السعودية-الإيرانية: السياقات والتداعيات

إن تطبيع العلاقات السعودية-الإيرانية، رغم أهميته الاقتصادية، يعكس توجّهاً جديداً في المنطقة فرضته التحوّلات الجديدة في موازين القوى الدولية التي تجمع بين المصالح الاقتصادية والأمنية

  • عودة العلاقات السعودية-الإيرانية: السياقات والتداعيات 
    عودة العلاقات السعودية-الإيرانية: السياقات والتداعيات 

كما كان مرتقباً، وبعد كل ما تراكم من لقاءات بوساطات عُمانية وعراقية وأخيراً صينية، تم الإعلان المبدئي عن استئناف العلاقات الدبلوماسية السعودية-الإيرانية من العاصمة بكين.

 كان من الممكن اعتبار هذا الحدث الدبلوماسي حدثاً عابراً لو لم تتجاوز تداعياته سقف العلاقات الثنائية بين بلدين متخاصمين؛ فنتائجه سيكون لها، من دون أدنى شك، أكبر الأثر في بنية الصراع الاستراتيجي الحالي، بما تشكّله منطقة الشرق الأوسط من أهمية استراتيجية، وما تشهده المنطقة من توترات وصراع للمحاور جيوستراتيجي محتدم، كانت الدولتان تتموضعان فيه، إلى عهد قريب، على طرفي نقيض تتزعمهما كل من أميركا والغرب الأطلسي من جهة، والصين وروسيا من جهة أخرى.

مما لا شك فيه أن عودة العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران، وفق ما تضمّنته ورقة المبادئ التي وقّعتها الدولتان، وبما تحتوي من إرادة مشتركة لاحترام سيادة الدول وحل الخلافات الأمنية في المنطقة وتطوير الشراكة الاقتصادية بين البلدين، سيكون لها أثر كبير في دول منطقة الشرق الأوسط، وتفتح الباب أمام خطوات دبلوماسية أخرى لإعادة ترتيب البيت الداخلي بين هذه الدول وحل النزاعات فيما بينها، بما يخدم مصالحها الاستراتيجية ضمن محور جديد شرق أوسطي- صيني- روسي، رغم ضغوطات الغرب الأطلسي الذي يسعى لعرقلة هذا التوجه الذي يعمل لإحلال الأمن والسلام في المنطقة وتأهيلها سياسياً واقتصادياً، وبالتالي تموقعها بشكل جيد في النظام العالمي الجديد.

لكن السؤال الذي يظل مطروحاً هو كيف تمكّنت السعودية وإيران من تجاوز حقل الألغام الذي تمت هندسته من طرف أميركا و"إسرائيل" منذ بداية الألفية الثالثة في ما سمّي "خارطة الشرق الأوسط الجديد"، التي كان ضمن أهدافها تقطيع أوصال المنطقة، وتقسيمها إلى كانتونات مذهبية وطائفية مع تسييد الدور الزعاماتي للكيان الإسرائيلي، وإظهاره بمظهر الشريك الاقتصادي والعسكري القادر على حفظ الأمن والاستقرار لدول الشرق الأوسط، في مقابل شيطنة دور إيران وإظهارها كدولة مهدِّدة لأمن دول الخليج.

هذا مع العلم أن إيران تجمعها بالمنطقة علاقات تاريخية ودينية، بالإضافة إلى ما تختزنه من مقومات اقتصادية وعلمية وتكنولوجية قد تعود بالنفع على تنمية دول المنطقة، لو تم استثمارها في إطار شراكات تجارية واقتصادية تحترم مبادئ حسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لبعضها البعض. 

في هذا السياق، يمكن أن نسرد على سبيل المثال وليس الحصر، قيمة المبادلات التجارية، حسب بيانات الجمارك الإيرانية، بين الإمارات العربية المتحدة وإيران، خلال سنة 2021، والتي بلغت 21 مليار و 400 مليون دولار، رغم الحظر الأميركي، من أجل فهم ما قد ينتج من أثر إيجابي على اقتصاديات بلدان الشرق الأوسط، بعد عودة العلاقات الدبلوماسية بين كل من إيران والسعودية، والتي ستفتح الباب لمزيد من الشراكات والمبادلات التجارية يرتفع معها حجم المبادلات إلى أرقام غير مسبوقة، وهي أرقام لن تتحقق مع الكيان الإسرائيلي المجبول دوماً على الأخذ من دون العطاء. 

إن ما أقدمت عليه الإمارات، في تقديري الشخصي، من تجميد لصفقة الأسلحة مع "إسرائيل"، وعدم رغبتها في استضافة نتنياهو، يعبّر عن إدراكها، ولو جاء في وقت متأخر، للا جدوى الاندفاع نحو توطيد علاقتها بها أكثر، وذلك بعد أن بدأت تلوح في الأفق خيارات أخرى تنتفي معها حاجة دول المنطقة الأمنية، ولن أقول الاقتصادية، إلى الكيان الإسرائيلي.

صحيح أن البعد الاقتصادي تظهر أهميته بشكل جلي في عودة العلاقات السعودية- الإيرانية، لكن عندما نستحضر التحوّلات التي تشهدها الاستراتيجية الدبلوماسية الجديدة للمملكة؛ انطلاقاً من مجموعة من المواقف التي تبنّتها بالعلاقة مع "أوبك بلاس" وروسيا، رغم أنها تتعارض مع الإرادة الغربية والأميركية، كما حصل في شأن مشاريع الطاقة عند زيارة بايدن ورؤساء حكومات أوروبية، بالإضافة إلى توقيعها اتفاقية شراكة استراتيجية مع الصين، وإعلانها عن تأسيس مجلس أعلى للتنسيق مع الدولة الجزائرية، وكذا التعبير عن رغبتها في الانضمام إلى مجموعة "البريكس"، بالإضافة إلى إيران والجزائر وتركيا ومصر. 

كل ذلك يدفعنا إلى القول إن تطبيع العلاقات السعودية-الإيرانية، رغم أهميته الاقتصادية، يعكس توجّهاً جديداً في المنطقة فرضته التحوّلات الجديدة في موازين القوى الدولية التي تجمع بين المصالح الاقتصادية والأمنية، وهو ما يؤشّر على تحوّلات أخرى قادمة.

كما أن الإعلان عن عودة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين من بكين يحمل أكثر من رسالة في اتجاه أميركا التي استاءت من هذه الخطوة إلى جانب "إسرائيل"، في حين رحّبت به روسيا ودول أخرى، ويؤكد الدور الروسي-الصيني الضامن لهذه المصالحة، التي تعدّ أساسية لتطوير الشراكات التجارية والأمنية مستقبلاً مع دول المنطقة.

في هذا الصدد، أستحضر مقالاً سبق أن نشرته في موقع جريدة "الرأي اليوم" في 19 كانون الأول/ ديسمبر 2021 تحت عنوان "العلاقات الروسية المغربية... نهاية مرحلة وبداية الكمّاشة الأميركية الإسرائيلية"، وهو المقال الذي تطرّقت فيه إلى الدور الذي كان من الممكن أن تلعبه الدولتان روسيا والصين في النزاع القائم بين الجزائر والمغرب، لو أن هذا الأخير لم يتراجع عن علاقاته التي أقامها مبكراً مع بداية الألفية الثالثة، عند زيارة الملك محمد السادس لكل من روسيا والصين، وعمل على تطوير شراكاته الاستراتيجية معهما، وتوجّه نحو أميركا و"إسرائيل" بعد الاعتراف التكتيكي لدونالد ترامب في أواخر ولايته 2020 بمغربية الصحراء، والذي أراد منه قطع الطريق عن هذه الاستراتيجية، ودفع المغرب إلى تطبيع علاقاته بـ"إسرائيل"، مع تمكينه من موقع قدم في هذه المنطقة الجيوستراتيجية كبوابة لأفريقيا وأوروبا.

ولعلّه من الأهمية بمكان هنا استحضار أفضال علاقات المغرب في اتجاه الصين وروسيا وتطويرها، لأنها ستضعه جنباً إلى جنب الجزائر في مرتبة الشريك الاستراتيجي الموثوق به لكل من روسيا والصين، وكذا خفض منسوب التوتر بين المغرب والجزائر في اتجاه حل يرضي الطرفين، بالإضافة إلى تراكم المصالح الاقتصادية المشتركة وتعزيز الفرص الهائلة للاستثمار في منطقة الشمال الغربي لأفريقيا، بما في ذلك عدم استضافة الجزائر لقيادات جبهة البوليساريو فوق أراضيها، وإنهاء الدعم المقدم لها، وهو ما كان ليحل ملف الصحراء عملياً، حتى وإن تم الإبقاء عليه في رفوف الأمم المتحدة من طرف بعض الدول التي تسعى لجعله ورقة لزعزعة الاستقرار في المنطقة، ولتوظيفه في الصراع الاستراتيجي الحالي الذي ينذر بنهاية الأحادية القطبية بزعامة أميركا، وبداية نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب قائم على الشراكات الاقتصادية والتجارية مع احترام سيادة الدول ووحدة أراضيها، وهو ما تنبّهت إليه العديد من الدول في الشرق الأوسط وأفريقيا وبقية العالم.