عودة العلاقات السعودية-الإيرانية تُلقي بظلالها على اليمن
انطلاقاً من مصالحها ومخاوفها، وبناءً على اتفاقها مع طهران، على الرياض المضي بجدية أكثر لاستكمال مفاوضاتها القائمة مع صنعاء.
يُعدّ اتفاق استئناف العلاقات بين السعودية وإيران كقوتين إقليميتين بوساطة صينية مؤشراً على تنامي دور بكين في عملية إعادة تشكيل النظام الدولي وتفاعلاته على حساب الهيمنة الأميركية، إذ تُسطّر الصين مرحلة جديدة في سياستها الخارجية تتجاوز الصورة النمطية المعروفة عنها، لتنتقل إلى ممارسة حضور دولي ديناميكي على المستوى السياسي لا يقل عن الحضور الاقتصادي.
لذا، فهذا الاتفاق الذي أثار حساسية كبيرة وقلقاً لدى الولايات المتحدة؛ بسبب وساطة بكين وتوقيته المزعج لواشنطن، يُعدّ نجاحاً دولياً لافتاً للصين، وإن كان استكمالاً لجهود الوساطة العراقية-العُمانية، كما أن هذا الاتفاق يُعدّ نجاحاً سعودياً – إيرانياً على المستويين العربي والإسلامي، إذ أظهرت المواقف الإقليمية والدولية إجماعاً يُرحّب ويدعم عودة العلاقات بين الرياض وطهران، باستثناء ثلاثة مواقف متقاربة جمعت الولايات المتحدة وكيان العدو، وما يُسمّى "مجلس القيادة الرئاسي" جنوب اليمن، وهي مواقف مشتركة في تعبيرها عن الإحباط والتشكيك في الاتفاق كونه لا يخدم مصالحها، وإن اختلفت.
لا شك في أن اتفاق عودة العلاقات السعودية-الإيرانية ستكون له انعكاسات إيجابية على البلدين، وعلى المستويين الإقليمي والدولي، وفي مقدمة ذلك خفض التوتر المصطنع في المنطقة والذي يقوده ويوظّفه كيان العدو الإسرائيلي، والولايات المتحدة، ضد دول المنطقة، لا سيما إيران وملفها النووي، ويُحدّ الاتفاق من استعراضات العدو الإسرائيلي بإمكانية توجيهه ضربة لمنشآت إيران النووية، كما لا شك في أن مثل هذا الاتفاق الهام يزيد من فرص إحياء الاتفاق النووي، لا سيما في ظل إمكانية توجّه الصين إلى جانب روسيا؛ لدعم التوصل إلى صيغة اتفاق نهائي لا ينتقص من حقوق إيران المشروعة ومطالبها.
وفي ما يخص ملف اليمن، فالاتفاق السعودي-الإيراني، وإن كان خطوة متقدمة تباركها صنعاء، ليس بالضرورة أن يقود إلى حتمية الاتفاق بين صنعاء والرياض. ومع ذلك، هناك تطلع إلى أن يُلقي هذا الاتفاق بظلاله على اليمن، ويُسهم في إنهاء العدوان والحصار، وسرعة استكمال المفاوضات القائمة بين صنعاء والرياض، وتوصل الطرفين إلى اتفاق يُمكن إعلانه من مسقط أو موسكو أو حتى مكة المكرمة.
المتتبع للسياسة الأميركية في المنطقة يُدرك جيداً كيف ظلت الولايات المتحدة تؤكد عدم وجود أي أدلة على تدخل إيران في اليمن، إلى أن شُنّ العدوان على اليمن في 26 آذار/مارس 2015م، إذ غيّرت واشنطن موقفها وكرّست جهودها السياسية، وآلتها الإعلامية الضخمة بالتعاون مع حلفائها لخلق فزاعة إيران، وضرورة وقف ما سُمّي بـ"المدّ الفارسي" في اليمن كأحد الأهداف الرئيسية لتحالف العدوان، لكنّ الرياض اليوم أثبتت عملياً زيف أهدافها ومزاعمها من وراء قيادتها لتحالف العدوان على اليمن، فبإزاحتها الرئيس عبد ربه منصور هادي، وتشكيلها ما يُسمّى "مجلس القيادة الرئاسي" أسقطت الهدف الرئيسي لتدخلها العسكري، وهو إعادة ما يُسمّى بالشرعية، كما أسقطت الرياض فزاعة التدخل الإيراني في اليمن من خلال اتفاق استئناف علاقاتها مع طهران التي، رغم تشكيك البعض في صدق نياتها وجدّيها، كانت سبّاقة في طرح المبادرات وإبداء رغبتها في التقارب والتصالح بما يُحقق السلام والأمن والاستقرار في المنطقة ودولها التي يجمعها المصير الواحد، والعدو المشترك.
تشهد السعودية مرحلة جديدة من التحوّل في سياستها الخارجية، ومن ملامح ذلك التحوّل التوجّه نحو التحرر من أحد أهم المبادئ الأساسية في سياستها الخارجية منذ تأسيس المملكة، وهو الحفاظ على قربها من الولايات المتحدة وتحالفها الاستراتيجي معها، والانتقال إلى سياسات أكثر تنوّعاً وانفتاحاً بما يُحقق مصالحها الوطنية، ويُعالج مخاوفها وهواجسها لا سيما الأمنية. وفي هذا الإطار، قررت الرياض التوجّه إلى التفاوض مع صنعاء على اعتبار أن الحوار معها من شأنه معالجة جزء من مخاوفها الأمنية، ويؤمن حدودها الجنوبية، كما معالجة الجزء الآخر من تلك المخاوف والهواجس بالحوار مع طهران، وهو ما تم مؤخراً وأسفر عن عودة العلاقات بين البلدين.
انطلاقاً من مصالحها ومخاوفها، وبناءً على اتفاقها مع طهران، على الرياض المضي بجدية أكثر لاستكمال مفاوضاتها القائمة مع صنعاء،لأن أي تفكير سعودي في أن عودة علاقتها مع إيران من شأنها خلط الأوراق، وإضعاف موقف صنعاء التفاوضي أو حتى التأثير فيه سيكون خطأ استراتيجياً، ولن يُضعف علاقات صنعاء بطهران كونها قائمة على المبادئ والقيم المشتركة ثم المصالح، بل ستتحمّل الرياض العواقب، لا سيما أن موقف صنعاء على لسان قائد الثورة السيد عبد الملك الحوثي هو إعطاء فرصة كافية لجهود الوساطة العُمانية للتوصل إلى اتفاق، ولا يعني ذلك استجداء السلام، وتصريحات صنعاء تؤكد أن صبرها لن يطول، وقد تُضطر إلى استئناف المعركة من جديد داخل العمق الحيوي للسعودية لطمأنة الرياض، إن جاز التعبير، إلى أن "قرار صنعاء في صنعاء"، والتشديد مجدداً على حقيقة العلاقات المتكافئة بين صنعاء وطهران، والإرادة المستقلة لكل طرف.
في إطار إعادة ترتيب أولوياتها الداخلية والخارجية، تُدرك المملكة أن معالجتها لملفاتها الشائكة، وفي مقدمتها رغبتها في الخروج من مأزقها في اليمن، وإنهاء حالة العداء مع إيران تتطلب تكريس جهودها نحو مزيد من تهيئة المناخات لتنفيذ سياسات الانفتاح والتحوّل بقيادة الأمير محمد بن سلمان، الذي يطمح إلى مكانة إقليمية سعودية أكثر ديناميكية وقبولاً عبر سياسات براغماتية تستفيد من الأخطاء والتجارب، والدفع بالمملكة لتكون المركز الاقتصادي للمنطقة، مع تركيز الجهود على تجاوز مظاهر التفوق الاقتصادي والسياسي الذي تُبديه الإمارات كمنافس يسعى للحفاظ على مركزه الاقتصادي المتقدم في المنطقة، مع استمرارها في لعب دور إقليمي وتحرك يسبق الرياض تجاه القضايا والملفات الإقليمية، لا سيما أنها كانت سبّاقة في إعادة علاقاتها مع طهران، ودمشق، وأنقرة، بالإضافة إلى قيادتها عملية التطبيع مع كيان العدو الإسرائيلي.
وفي ظل هذه الطموحات المتعارضة لكلا البلدين، تتزايد وتيرة التنافس والخلافات بينهما، لتُنبئ بصراع قادم في عدد من الملفات، وفي مقدمتها ملف الحرب على اليمن، إذ ترى الرياض أن نفوذ أبو ظبي جنوب اليمن قد تجاوز تقديراتها ومصالحها ما يُضعف نفوذها، وهو ما لن تسمح به المملكة التي شرعت في تنفيذ إستراتيجية لتحجيم النفوذ الإماراتي.
ختاماً، فإن الحفاظ على تماسك اتفاق عودة العلاقات السعودية-الإيرانية وتوسيعه يُمكن أن يُشكل مدخلاً نحو مصالحة عربية وإسلامية، ويسمح بالتفكير في إعادة بناء خارطة التحالفات، والتوجه نحو شراكة وتحالف إقليميين على مختلف المستويات الاقتصادية والسياسية والعسكرية، بما يتجاوز المشاريع الصهيونية- الغربية في المنطقة، ويُحقق الأمن والاستقرار والمصالح المشتركة للأمتين العربية والإسلامية وشعوبهما، وفي إطار هذه التطلعات المشروعة، تتعاظم فرص إحلال السلام بين صنعاء والرياض وإنهاء تسعة أعوام من العدوان والحصار على اليمن وشعبه العزيز.