عودة العرب إلى الحضن السوري: حتمية "السين-سين"؟
هل إصرار دمشق وصمودها مع حلفائها سيجبر العرب ومن خلفهم واشنطن على العودة إلى التوازنات التي كانت سائدة قبل اندلاع الفوضى في سوريا وجوارها على حد سواء؟
في آب/أغسطس من العام 2021 استضاف العراق مؤتمراً اقتصادياً-سياسياً يجمعه مع مصر والأردن فيما أطلق عليه لاحقاً اسم مؤتمر الشام الجديد، وتمحورت التفاهمات بين هذه الدول حول المستقبل الاقتصادي والسياسي للمنطقة. وكما يبدو من عنوان المؤتمر، فإن بلاد الشام كانت في صلب النقاشات والتفاهمات، إلّا أنّ سوريا لم تكن ممثّلة في هذا المؤتمر، كان هناك سؤال منطقي وضروري يجب الإجابة عليه لتحديد نسب نجاح هذا المشروع العربي الجديد؛ كيف يمكن إشراك سوريا في هذا المشروع في ظل فشل المؤامرة الكونية عليها؟
لم تكن الإجابة على هذا السؤال في متناول يد المراقبين في حينها، إلّا أنّه اليوم ومع عودة العلاقات المباشرة بين سوريا والدول العربية من البوابة الإغاثية بعد الزلزال المدمّر الذي ضرب الحدود السورية التركية، أصبح من الممكن استشراف الخطّة العربية تجاه المنطقة من خلال الإجابة على السؤال أعلاه.
من البديهي أن يُفهم من الزيارات التي قامت بها العديد من الوفود الدبلوماسية العربية إلى دمشق مؤخّراً على أنها ليست متعلّقة فقط بالاستجابة الإنسانية لتداعيات الزلزال، حيث سبقت هذه الوفود الكثير من اللقاءات مع جهات عربية مختلفة وعلى رأسها دولة الإمارات العربية المتحدة، حيث التقى وزير خارجيتها نظيره السوري أكثر من مرّة، كما أن الرئيس السوري بشار الأسد زار أبو ظبي كدلالة واضحة على انفتاح إماراتي على سوريا. إضافة إلى ذلك، سبق وأن حصلت بعض اللقاءات الأمنية مع دول عربية أخرى كالمملكة العربية السعودية.
إذاً، لم يكن الحراك الدبلوماسي ما بعد الزلزال الكارثي إلّا مبرّراً تضامنيّاً وإنسانيّاً للإسراع بالانفتاح العربي على سوريا الذي كان مقرّراً أصلاً قبل الكارثة. وبالتالي نلتمس هنا الإدراك لدى معظم الدول العربية بأن لا حظوظ لنجاح أي مشروع عربي من دون انخراط سوريا فيه، خاصة وأنّ موقعها الجيوسياسي يحتّم على الجميع الأخذ بعين الاعتبار حاضر ومستقبل سوريا خاصة وبلاد الشام عامة.
بالعودة إلى مؤتمر الشام الجديد الذي توقّف الحديث عنه منذ مدّة، فإنّ ما أرادته الدول الراعية للمؤتمر هو إيجاد مشروع عربي ولو نظريّاً كبديل أو منافس لمجمل المشاريع الإقليمية والدولية في المنطقة العربية. خاصةً وأنّ تفاصيل هذا المشروع تتعلّق بالتنمية البشرية والاقتصادية، والتبادل التجاري والطاقوي بين مختلف دول المنطقة.
أمّا عمليّاً، فإنّ نجاح هذا المشروع متوقّف على تطوّر العلاقات العربية مع سوريا، وبالتالي ترجمة كل الاقتراحات التسوويّة في سوريا إلى واقع يجب أن تقبله دمشق، التي أعلنت غير مرّة أنّها ليست في وراد التخلّي عن حلفائها الاستراتيجيين كتنازل لأي تسوية مستقبلية تنهي النزاع العسكري والسياسي هناك.
فهل إصرار دمشق وصمودها مع حلفائها سيجبر العرب ومن خلفهم واشنطن على العودة إلى التوازنات التي كانت سائدة قبل اندلاع الفوضى في سوريا وجوارها على حد سواء؟
أمّا لبنان، الذي كان جزءاً من الانفتاح الرسمي العربي على سوريا بعد الزلزال، فلا يزال يرزح تحت وطأة أزماته الاقتصادية والسياسية. وفرص التوصّل إلى تسوية فيه تعتمد على عوامل كثيرة متشابكة ومعقّدة.
ولكي نتطرّق إلى هذه العوامل المتداخلة، لا بدّ أن نستذكر هنا مرحلة الاستقرار السياسي والاقتصادي التي شهدها كل من لبنان وسوريا، وهنا أقصد مرحلة ما بعد اتفاق الطائف. وكما يعلم الجميع فإنه بعد سنوات الحرب الأهلية في لبنان، دعت السعودية اللبنانيين إلى التفاوض على أراضيها، ليصلوا بعدها إلى هذا الاتفاق والذي ما كان ليحصل لولا التوافق السعودي السوري الفرنسي وبغطاء أميركي في حينها.
استمرّ الستاتيكو الذي أرساه الطائف حتى تاريخ التحوّل الفرنسي الأميركي والذي انضمت إليه السعودية لاحقاً في استراتيجية التعامل مع سوريا ولبنان. بحيث عمدت كل من باريس وواشنطن إلى إصدار القرار 1559 في أيلول/سبتمبر2004 والذي كان امتداداً لمشروع قانون محاسبة سوريا الذي صدر بدوره عن الكونغرس الأميركي قبل عام من القرار الأممي. بالشكل، كان المخطّط هو الضغط على سوريا سياسيّاً واقتصاديّاً، أمّا في المضمون، فكان الهدف الرئيسي والأوّلي هو إخراج دمشق من تسوية الطائف تمهيداً لعزلها جيوسياسيّاً عن جوارها.
منذ عام 2005، وبعد اغتيال الرئيس السابق للحكومة الشهيد رفيق الحريري، دخل لبنان في دوّامة الأزمات المعقّدة خاصة بعد انتهاء “الوصاية” السورية عليه. ورغم محاولة ترقيع الطائف في لقاء الدوحة الذي عقد في عام 2008، لم ينجح لبنان في إعادة، ولو بجزء بسيط، الاستقرار السياسي الذي عايشه قبل الـ 2005.
فهل أصبحنا أمام حقيقة لا مفرّ منها بأن النظام السياسي اللبناني لا يمكن أن يستقر إلا بمعادلة “السين-سين”؟
بالعودة إلى العوامل التي تؤثّر على الوضع السياسي والاقتصادي في لبنان، فإنّ التفاهمات العربية مع سوريا، لا بدّ أن يكون لها وقع إيجابيّ على لبنان من النواحي كافة، ولا سيّما تلك المتعلّقة بأمنه الاجتماعي من زاوية حل أزمة اللاجئين السوريين، وأمنه الاقتصادي من حيث عودة التبادل التجاري بين البلدين إلى طبيعته، واستقراره السياسي في حال العودة السياسيّة لسوريا إلى الطائف.
هل المملكة العربية السعودية في نسختها الجديدة جاهزة فعلاً لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، أي إلى مرحلة التسويات في بلاد الشام؟
فبعد وصول محمد بن سلمان إلى سدّة الحكم في المملكة، أصبحنا أمام نهجٍ سعوديّ جديد في التعامل مع مجمل القضايا الداخليّة والخارجيّة. ومن أهم المتغيّرات التي أرستها رؤيته الاقتصادية الجديدة “2030” والتي تهدف في مضمونها إلى إحداث نقلة نوعيّة من اقتصاد يعتمد بشكل كبير على النفط ومشتقاته، إلى اقتصاد متنوّع يعتمد على السياحة الترفيهية خارج الإطار الديني، والصناعات المختلفة والتعليم.
فمن الواضح أنّ التحوّل الاقتصادي الجديد في السعودية، سيؤثّر بطبيعة الحال على سياسات المملكة الخارجية في المنطقة. كما هو متعارف عليه، فإنّ الهويّة الاقتصادية التاريخية لبلاد الشام تعتمد بشكل أساسي على السياحة والتبادل التجاري عبر موانئها، وعلى بعض الصناعات في سوريا على وجه الخصوص. فإنّ النهج الاقتصادي السعودي الجديد سيعتبر الاقتصاد المعتمد في سوريا ولبنان منافساً له في قطاعات مختلفة. وبالتالي فإنّ أي انعطافة سعودية نحو التسوية في سوريا ولبنان ستأخذ بعين الاعتبار هذا التنافس الجديد.
إضافة الى ما سبق، فإن الوضع العسكري والسياسي في اليمن، الذي يشكّل هاجساً أمنيّاً على رؤية 2030، سيحدّد أيضاً ماهيّة هذه الانعطافة السعودية المتوقّعة. حيث أنّ انخراط أنصار الله في محور المقاومة أعطى مبرّراً للرياض لربط الملف اليمني بملفات المنطقة بشكل عام، وبالملف اللبناني-السوري بشكل خاص.
لذا إنّ محدّدات التوجّه السعودي الجديد تجاه سوريا ولبنان تتضمّن بشكل أساسي عاملين رئيسييّن، ألا وهما العامل الاقتصادي التنافسي، والعامل الأمني والسياسي في اليمن.
فهل تلجأ السعودية في الأشهر المقبلة لطرح المقايضة بين اليمن وبلاد الشام؟
جهدت المملكة في الجلسات التفاوضية الخمس الماضية مع إيران في بغداد خلال العام المنصرم، على إقحام طهران في تأدية دور سياسي ضاغط على حلفائها في المنطقة لتنتزع من خلالها تنازلات متعلّقة في مجمل النزاعات العسكرية هناك، خاصة في الحرب اليمنية. إلّا أنّه كان لإيران موقفها الحاسم بعدم التدخّل في شؤون حلفائها الداخليّة، وبأنها ليست الجهة المخوّلة لتحديد موقف شركائها من قضاياهم.
كان هذا الموقف الإيراني المبدئي، بمثابة المحفّز الذي أعاد الدور الجيوسياسي لسوريا إلى الواجهة مجدّداً، بحيث كرّست دمشق الجهة العربيّة الأنسب لتأدية دور، سبق وأن اشتهر به الرئيس الراحل حافظ الأسد، فيما خص التهدئة واجترار الحلول لمختلف القضايا العربية.
وتجدر الإشارة هنا، إلى أنّ الزيارة الأخيرة للرئيس السوري إلى سلطنة عمان بعد أيّام قليلة من حدوث الزلزال، تؤشّر على أن حراكاً دبلوماسيّاً ما ترعاه مسقط، التي تستضيف على أرضها مفاوضات صعبة ومعقدّة منذ مدّة، بين أنصار الله والمملكة العربية السعودية.
في المحصّلة، إنّ الأشهر المقبلة ستبيّن إذا ما كان الانفتاح العربي الجديد على سوريا، من الزاوية الإنسانيّة المتعلّقة بتداعيات الزلزال، هو مقدّمة لطرح تسويات جديدة تشمل اليمن سوريا ولبنان في المدى المنظور.