عالمية مسيرة الأربعين المليونية
المنطلقات والأسس الصحيحة لصوغ المواقف وتأكيد الثوابت الصائبة، هي السبيل الأنجع والأفضل لتحقيق الأهداف الكبيرة المرتكزة إلى إرث تاريخي ثري، كالثورة الحسينية.
إذا كانت النهضة الحسينية قبل 1384 عاماً، قد أسست لمنهج مواجهة الظلم والطغيان والاستبداد، وترسيخ مبادئ الحق والعدل والإيمان والتضحية ونكران الذات، فإن مسيرة الأربعين، مثلت إحدى أبرز سمات ديمومة تلك النهضة العالمية العظيمة.
ورغم الكمّ الهائل من المخاطر والتحديات والمصاعب والعقبات، التي أوجدها حكام الظلم والجور على امتداد أربعة عشر قرناً، من أجل طمس معالم النهضة الحسينية ومنع مسيرة الأربعين، بيد أن النتائج والمعطيات والمخرجات أتت على العكس تماماً مما كان يخطط له هؤلاء الحكام.
ولأن أرض العراق كانت المسرح الرئيسي الذي جرت عليه وقائع الثورة-النهضة الحسينية وما تبعها من ارتدادات لاحقة، ولأن هذه الأرض احتضنت جسد قائد الثورة الإمام الحسين عليه السلام، وأجساد الكثير من أهل بيته وأصحابه الذين قضوا معه في واقعة الطف عام 61 هجرية، فإنه من الطبيعي جداً أن يبقى ذلك المسرح زاخراً بالتفاعلات، ومليئاً بالأحداث، ومنطلقاً للمواقف والتوجهات.
وحتى لا نعود بعيداً إلى الوراء، فإنه يمكن القول، إن زوال نظام حكم حزب البعث في العراق قبل عشرين عاماً، فتح نافذة واسعة جداً لإبراز عالمية النهضة الحسينية من خلال مسيرة الأربعين، التي اكتسبت صفة "المليونية" ومعها "العالمية" عبر مصاديق وحقائق ماثلة على أرض الواقع.
فبعد أن كانت المؤسسات والأجهزة الحزبية والأمنية والاستخبارية لنظام الحكم البعثي تلاحق كل من يشارك في زيارة الأربعين سيراً على الأقدام، وكانت السجون والمعتقلات تغص بالآلاف ممن لم يقترفوا ذنباً سوى التوجه إلى كربلاء وإحياء ذكرى النهضة الحسينية، تبدل المشهد تماماً وارتسمت صورة أخرى مختلفة عن سابقاتها، وباتت مظاهر الإحياء العاشورائي تعمّ البلاد من أقصاها إلى أقصاها طوال شهرين كاملين من كل عام، هما محرم وصفر، ومن أعداد قليلة تقدر بالمئات أو الآلاف تسلك الطرق الوعرة لتتوارى عن عيون السلطات الحاكمة إلى ملايين الناس الذين تغص بهم المدن والشوارع، ابتداءً من أبعد بلدة حدودية تطل على الخليج جنوب العراق، وهي "رأس البيشه"، وحتى مرقد الإمام الحسين وأخيه العباس عليهما السلام وسط كربلاء.
وخلال الأيام القليلة الماضية، تداول بعض وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي إحصائيات تؤكد أن عدد الزائرين للمشاركة في إحياء أربعينية الإمام الحسين بلغ مليوني زائر في عام 2003، بينما وصل عددهم في عام 2020 إلى أربعة عشر مليون زائر، وبعد عام أو عامين ربما ناهز العشرين مليون زائر من داخل العراق وخارجه.
وقبل عامين، نشرت الموسوعة العالمية الحرة(ويكيبيديا)، قائمة بأكبر التجمعات البشرية السنوية في العالم، وكتبت بخصوص مسيرة الأربعين، "أن مسيرة الأربعين تحدث كل عام، وأن الإحصائيات التي تم رصدها للزيارة في الأعوام (2013، 2015، 2016، 2017) تزيد على تسعين مليون شخص".
ومع التزايد المطرد لأعداد الزائرين عاماً بعد آخر، فإنه من الطبيعي جداً أن لا يقتصر ذلك الازدياد على العراقيين فحسب، وإنما شمل بلداناً عربية ومسلمة وحتى غير مسلمة، إذ يتحدث العديد من الأوساط والمصادر الرسمية وغير الرسمية عن خمسة ملايين شخص جاؤوا العام الماضي للمشاركة في مسيرة الأربعين من نحو خمسين بلداً، وهكذا هي الحال في العام الحالي.
ويمكن للمرء أن يتصور ما يتطلبه ذلك الحضور المليوني الهائل من مستلزمات حياتية أساسية، من قبيل الطعام والشراب والنقل والإقامة والعلاج، الذي قد تعجز مؤسسات حكومية كبيرة عن توفيره بالشكل والقدر المناسبين، بيد أن آلاف المواكب الحسينية وعموم الناس تقوم بذلك بكل حماس واندفاع وتفان وإيثار. وهو شيء من الصعب بمكان تفسيره وفق السياقات المادية المتعارف عليها.
واللافت أنه رغم الاستهداف المتواصل لعموم الشعائر الحسينية، وتحديداً مسيرة الأربعين من الجماعات والتنظيمات الإرهابية التكفيرية، كـ"القاعدة" و"داعش"، بيد أن ذلك لم يوقفها ولم يضعفها، ولعل تلك الاستمرارية كانت بمنزلة رسائل سياسية وإنسانية وأخلاقية عميقة انطوت عليها مسيرة الأربعين، لتخرجها من دائرة التصورات والقراءات التقليدية السطحية، التي تتمحور حول أداء الطقوس الدينية ليس إلا، إلى فضاء المواقف السياسية المبدئية حيال القضايا والمشكلات والتحديات التي تواجهها الأمة الإسلامية.
وهي الرسائل السياسية ذاتها التي انطوت عليها النهضة الحسينية منذ انطلاقتها الأولى، من دون أن تنتهي أو تتلاشى بانتهاء المواجهة العسكرية السريعة في كربلاء في العاشر من محرم الحرام عام 61 هجرية.
وفي العام الماضي وهذا العام، مثل مؤتمر "نداء الأقصى" الدولي بنسختيه الأولى والثانية، أحد أبرز المظاهر السياسية لمسيرة الأربعين، فهو من حيث الحضور النوعي والكمي فيه، من أكثر من ستين بلداً، ومن حيث شعاره والموضوعات التي ناقشها واستعرضها، فضلاً عن الجهات التي تبنت عقده وتنظيمه، وفي مقدمتها العتبة الحسينية، وطبيعة مكان وزمان انعقاده، يعدّ توظيفاً عميقاً ومدروساً لمسيرة الأربعين لرص صفوف الأمة وتوحيد كلمتها وجمع شملها واستثمار طاقاتها وإمكانياتها بما يخدم قضايا شعوبها ويقوّي موقعها في مجابهة أعدائها والانتصار لأبنائها.
والمؤتمر الثاني الذي عقد مؤخراً تحت شعار "فلسطين والإمام الحسين: الأبعاد العالمية للشخصية الرسالية والقضية الإنسانية"، تمحور حول جملة من القضايا والأولويات، من بينها:
- أن القضية الفلسطينية هي ساحة الصراع الأولى بين أحرار العالم والقوى الاستعمارية.
- أهمية دور علماء الدين والإعلام ومؤسسات المجتمع المدني في توضيح أبعاد القضية الفلسطينية والنهضة الحسينية.
- ضرورة نشر صوت الجرحى وعوائل الشهداء والأسرى، وتعريف العالم بما يتعرّضون له من انتهاكات.
- رفض الإساءات والتجاوزات والانتهاكات للكتب السماوية، ومن بينها القرآن الكريم، والتي تقف وراءها جهات وأجندات تستهدف زرع الفتن وإثارة الصراعات والحروب بين أتباع الأديان والمذاهب المختلفة.
- رفض التطبيع مع الكيان الصهيوني، ووجوب قيام علماء الأمة وأحرار العالم بمواجهته والتصدي له بكل الأشكال والوسائل والأدوات.
ومن أي زاوية نظرنا إلى ملتقيات عالمية من هذا القبيل، وأخذنا في الاعتبار طبيعة المكان وظروف التوقيت والزمان، فإن ذلك يوصلنا إلى حقيقة مفادها أن المنطلقات والأسس الصحيحة لصوغ المواقف وتأكيد الثوابت الصائبة، هي السبيل الأنجع والأفضل لتحقيق الأهداف الكبيرة المرتكزة إلى إرث تاريخي ثريّ، كالثورة الحسينية وقائدها العظيم الإمام الحسين عليه السلام، وكمسيرة الأربعين المليونية بتجلياتها الإنسانية والأخلاقية والاجتماعية والسياسية العميقة، التي باتت اليوم العنوان العالمي الأبرز والأكبر والأوسع.