طوفان الأقصى: السجن أو القبر
من تحت ركام البيوت المهدمة يقول الشعب الفلسطيني إنهُ سيبقى هنا إلى الأبد حتى ينال حريته، وهذا الأبد ليس ببعيد.
إذا ًهو الوجه الحقيقي للاستعمار، بحيثُ لا جديد في جرائم الاحتلال، إذ الأخير يؤمن، بمقتضى عقيدته اليمينية المتطرفة، بأن الشعب الفلسطيني مصيره إما السجن وإما القبر؛ تلك النظرية التي أطلقها بنيامين نتنياهو والمتطرف أيضاً إيتمار بن غفير، بعد أحداث الضفة الغربية تحديداً.
هذه النظرية مستمدة بطبيعة الحال من عقيدة الجدار الحديدي للمتطرف زئيف جابوتنسكي. وفي هذا الصدد أتذكر ما قاله لي يوماً ضابط في جيش الاحتلال يوم الاعتقال، إذ قال: "مصيرك السجن أو القبر إذا فعلت شيئاً ضد "دولة إسرائيل""، بمعنى علينا إدراك أمر مهم، وهو أن كل فلسطيني مهما حاول الهروب، عليه أن يدفع الثمن، أو أن يدفع حصته في ظل صراع الوجود مع الاحتلال.
في عمق السياق، يقول تشي غيفارا: "إن الطريق مظلم وحالك، فإذا لم تحترق أنت وأنا فلمن سنُنير الطريق؟". وتأتي كلمات غيفارا لتطرح سؤالاَ مهماً يقول: "هل الثمن أمر حتمي؟"، إذ يحتاج هذا السؤال إلى أن نُجيب عنه على نحو منفرد، وخصوصاً أمام مشهد آلة القتل التي يستخدمها الاحتلال بحق قطاع غزة المحاصر. وفي سياق متصل، من المهم حسم الإجابة بصورة سريعة، في ظل مرحلة تحتاج إلى أن نُحدد خيارتنا من دون أن ننسى الثمن لهذه الخيارات.
الثمن أو الحصة التي نتحدث عنها بطبيعة الحال تتباين من إنسان إلى إنسان، ومن موقع جغرافي إلى موقع جغرافي... إذ هناك من يتم اعتقاله، وهناك من يستشهد، وهناك من يعيش ظروفاً اقتصادية صعبة، وهناك من يُمارس الحياد، وهناك أكثر: من هو خائن. وجميعها أثمان تُقدم في أشكال متعددة، وأحياناً بصورة غريبة. وعلينا ألّا ننسى هنا ما قاله يوماً المفكر الشهيد فتحي الشقاقي، إذ قال إن "فلسطين هي مركز الصراع الكوني اليوم وستبقى كذلك على رغم كل الاتفاقيات". والدليل الصارخ على كلمات الشقاقي هو "طوفان الأقصى"، إذ إن الأخيرة أعادت من جديد القضية الفلسطينية على مائدة العالم على رغم كلّ ما يُحاك ضدها.
بناءً عما سبق علينا أن نأخذ السؤال التالي: "هل الهدف يستحق التضحية، وبصورة أوضح هل فلسطين تستحق الثمن؟". هو سؤال قديم جديد، لكن لنُفكر في العائد من الثمن، بمعنى أن التكلفة ربما السجن أو القبر، وقبل الذَّهاب إلى العائد لنتذكر ما قاله أيضاً الشهيد فتحي الشقاقي، إذ قال في هذا السياق: "لا يعرف العشاق أين سيلتقون، في السجن أم في الموت أم في ظل وردة". ويقصد الشقاقي بالعشاق عُشاق الحرية لفلسطين الذين يموتون كل يوم في سبيل شيء أحترمه كما قال غسان كنفاني يوماً، إذ وصفهم الأخير بأنهم الرجال الذين ينحدرون بشروقهم الحقيقي خلال امتشاق السلاح. وفي سياق متصل فيمَا يخص الثمن نستعيد من جديد ما قاله الشهيد والطبيب الثائر عبد العزيز الرنتيسي: "الموت أتٍ سواء بالسكتة القلبية أو بالأباتشي، وأنا أفضل الأباتشي".
أما العائد في بعده الاستراتيجي، والذي يأتي في سياق مرحلة التحرر الوطني والديمقراطي، فهو حرية فلسطين واستقلالها من الاستعمار الصهيوني، إذ هناك من سقط للأبد من على صراط الضمير الإنساني فيمَا يخض التكلفة والعائد، وهناك من استطاع العبور على رغم كل المخاطر، وتوجد فئة تتمسك بطرف الصراط ولم تسقط بعد، لذلك يجب انتشالها حتى تعبرُ، ولهذه الفئة ربما نكتب.
تحت مظلة ما سبق، علينا إدراك أنَ طريق الثمن ليست مفروشه بالحرير، وأكثر إنَ الثَّبات هو عنوان المرحلة حتى لا يفلت النصر من بين أيدينا، وعلينا هنا أن نتشبث بالأمل أكثر من أي وقت مضى.
وحتى لا نعيش صدمة العجز أو الهزيمة، علينا أن نتذكر مشهد الانهيار في تلك اللحظة التي نكتشف فيها أنهُ كان في الإمكان الثَّبات، لكن استسلمنا، إذ قال يوماً في هذا السياق الراحل الكبير جورج حبش: "إن النضال ضد المشروع الصهيوني قد يستمر مئة عام فأكثر، فعلى قصيري النفس أن يتنحوا جانباً"، بحيثُ تُعَدّ هذه الكلمات لحبش بمنزلة قاعدة ثورية للصمود والصبر، تستحق أن تُدرس للشعوب المضطَهَدة.
أخيراً وليس آخراً، في هذا المضمار علينا أن نتذكر جيداً، وأكثر لنجعل هذه الذكرى تعيش حيه في الأدمغة، وخصوصاً أدمغة أطفال الشعب الفلسطيني، والتي تقول: إن المقاومة استطاعت أن تجعل الاحتلال بعد "طوفان الأقصى" هو من يعيش إمّا في السجن، وإمّا في القبر، وخصوصاً إذا قرر الدخول براً لغزة، إذ إن هدف المقاومة دائماً أن تجعل المستعمر يدفع ثمن استعماره للشعوب، بحيثُ إن ذلك لن يحدث دونمَا إرادة وإيمان بالنصر والاستعداد للتضحية، إذ استطاعت المقاومة الفلسطينية أن تجعل المستحيل ممكناً، على حد وصف الراحل جورج حبش، وتمكنت من شفاء جيل فلسطيني من عقدة الهزيمة بعد أن عاش أعواماً مليئة بالهزائم، بحيثُ أثبتت المقاومة أن علاج الاحتلال بصفته مرضاً لن يكون إلا بالثورة المسلحة.
إذاً، من تحت ركام البيوت المهدمة يقول الشعب الفلسطيني إنهُ سيبقى هنا إلى الأبد حتى ينال حريته، وهذا الأبد ليس ببعيد. وكعادته، على رغم كل الجراح فإن الشعب الفلسطيني يتصدّر المشهد وهو يغني:
لو سمّوا الميّـه ما يخالف
لو هدّوا البيت مش خايف
لو كسروا عظامي ماني زاحف
رح ألمّ عظامي يا بلدي
وأصنع مقـلاع وحجـر.