صدام الحضارات في مونديال قطر

أحضر الغرب الرياضة، بشكل عام، وكرة القدم بشكل خاص إلى ساحة النزال، وسقطت معه كل دعايات الديمقراطية والحرية والحيادية.

  • صدام الحضارات في مونديال قطر
    صدام الحضارات في مونديال قطر

لم يكن صامويل هنتنجتون مخطئاً عندما تحدث عن صدام الحضارات، ولم يستطع كل من نقد نظريته وكتاباته حول هذا الصراع إثبات أن العالم يتجه نحو الحوار، إذ كل ما بُذل من جهد فيما سُمّي حوار الحضارات لم يؤد إلى أي نتيجة، بل قد تكون هذه الفكرة، وليس النظرية، قد انتهت بخفوت نجم من أطلقها وسعى إلى تسويقها.

ما ذكره هنتنجتون لم يكن سوى وصف لواقعٍ أحداثه تدور في أروقة صانعي القرار الغربي، فمن يُمثل الحضارة الغربية لا يملّ من العمل لفرض أجندته الثقافية ونمط حياته الاجتماعية وأسلوبه على العالم أجمع، وما الصراع العسكري والسياسي إلا أحد مظاهر هذا السعي لفرض هذا النمط الغربي على العالم.

 وفي هذا الإطار، أحضر الغرب الرياضة، بشكل عام، وكرة القدم بشكل خاص إلى ساحة النزال، وسقطت معه كل دعايات الديمقراطية والحرية والحيادية، وتأكد أن كرة القدم هي جزء من منظومة الصراع الحضاري الذي يخوضه الغرب ممثلاً الحضارة الغربية ضد الشرق والحضارة الشرقية.

فبعد استبعاد روسيا من جميع المسابقات الرياضية، وبالأخص تصفيات مونديال قطر، وهي سابقة لم تحدث قبل اليوم في عالم الرياضة، جاء دور استخدام فعاليات المونديال لفرض نوع من النمط الاجتماعي الغربي على العالم بأسره، وشاهدنا هذه الهجمة الموجهة لفرض المثلية كموضوع أوّل على الصعيدين الثقافي والحضاري في أروقة الدولة المستضيفة قطر.

وكان قادة منتخبات إنكلترا وويلز وبلجيكا وهولندا وسويسرا وألمانيا والدنمارك يعتزمون ارتداء شارات اليد بشعارات تدعم المثليين، قبل أن يُحذّر الاتحاد الدولي لكرة القدم "فيفا" من أنّ اللاعبين سيحصلون على بطاقة صفراء إن فعلوا ذلك.

وبالرغم من الضغوط الكبيرة التي تعرضت لها قطر كدولة للسماح باستغلال هذه التظاهرة الرياضية العالمية للترويج للمثلية، أصرّت الدوحة على موقفها في عدم جواز استغلال الرياضة للترويج لموضوع ثقافي-اجتماعي يواجه معارضة شديدة في الغرب قبل الشرق، بل ودعم عديد من الدول والمفكرين موقف قطر في ذلك الأمر.

وتستند دولة قطر في موقفها إلى قانون المعاهدات VCLT))، وهي اتفاقية دولية تنظم المعاهدات بين الدول، وهذه الاتفاقيات حفظت السيادة لكل دولة، فكون الدولة المستضيفة دولة مسلمة والكحول والمثلية أمران يخالفان أحكام الشريعة الإسلامية فلها الحق في اتخاذ القرار الذي يتناسب مع قيمها وأخلاقياتها بقوة اتفاقية فيينا.

وأمام هذا الموقف المتميز لدولة قطر، اضطرت هذه الدول إلى إصدار بيان ذكرت فيه: "لا يمكننا وضع لاعبينا في موقف قد يجعلهم عرضة لعقوبات رياضية. لذلك، طلبنا من القادة عدم محاولة ارتداء الشارات في مباريات كأس العالم."

واستكمالاً لهذا القرار، منعت قطر دخول أي متفرج يضع هذه الشعارات. أفاد صحافي أميركي يغطي مباريات كأس العالم لكرة القدم في قطر، بأنه أوقف لفترة وجيزة في أثناء توجهه لحضور مباراة الولايات المتحدة وويلز، بسبب ارتدائه قميصاً رسم عليه علم المثليين.

ونشر الصحافي غرانت وال الذي يعمل في شبكة "cbs" الأميركية تغريدة في "تويتر" قال فيها "إنه وفي أثناء دخوله ملعب أحمد بن علي؛ لتغطية مباراة الولايات المتحدة ضد ويلز، منعه حراس الأمن، وقالوا له عليك أن تغيّر قميصك.. هذا غير مسموح به".

كل هذه الأمور تقع في سياق عدم تقبّل الدول الغربية التي تدّعي الحرية فكرة أن تستضيف دولة عربية إسلامية أكبر تظاهرة رياضية عالمية، فدولة قطر واجهت حملة ممنهجة ضدها على مدى اثني عشر عاماً منذ اختيارها لاستضافة كأس العالم، وهي حملة لم تواجهها أي دولة أخرى حظيت بحق استضافة هذه البطولة، بدءاً من تشويه سمعتها في قضايا رشوة للفوز باستضافة هذا الحدث مروراً بقضايا حقوق الإنسان والعمالة الأجنبية، وصولاً إلى القضايا المثارة اليوم.

وفي موقف مشابه، فرضت قطر قيمها وأخلاقياتها عندما منعت تعاطي الكحول وبيعها في كل الأماكن المخصصة للرياضة، وهو موقف رفضه عدد من الدول الغربية باعتباره يتعارض مع الحرية الاجتماعية.

هذان الموقفان يدلّان بشكل كبير على استغلال الغرب للرياضة للترويج لثقافته ونمطه الاجتماعي وفرضه على الآخرين، إذ حاول استغلال هذا المونديال الذي يُقام في قلب العالمين العربي والإسلامي ليُسجل له موطئ قدم ينطلق منه في تصميم هذا النمط الاجتماعي على العالمين العربي والإسلامي أجمع.

يبقى أن لاعبي المنتخب الألماني استغلوا عدم السماح بالترويج للمثلية ليُسجلوا موقفاً مشيناً عندما وضع اللاعبون أيديهم على أفواههم خلال الصورة الرسمية، قبيل انطلاق مباراتهم أمام اليابان، في افتتاح منافسات المجموعة الخامسة في مونديال قطر 2022، احتجاجاً على رفض الاتحاد الدولي لكرة القدم "فيفا" السماح لهم بارتداء شارات لدعم المثليين، للإيحاء بأن حرية الرأي غير موجودة في دولة قطر. 

ويمكن أن يكون انشغال إدارة المنتخب ولاعبيه بهذه الألاعيب هو سبب الخروج المذلّ للمنتخب الألماني، ويُذكر أنّ نسبة كبيرة من المتابعين والمحللين الألمان يرجعون الخروج المذلّ لفريقهم إلى انعدام التركيز لدى اللاعبين، وأن عدداً منهم كان مشغولاً ليلة ما قبل مباراة اليابان بموضوع حمل شارة المثليين من عدمه.

وفي هذا المجال، يُمكن القول إنّ هذا الجدل الذي صاحب مونديال قطر سيكون له انعكاس على مستقبل الرياضة، لأنّ البعض يُريد أن يجعل من كرة القدم أكثر من مجرد رياضة وتنافس وترفيه، ويريدها أن تُصبح حدثاً ثقافياً اجتماعياً يفرض فيه قيمه وأخلاقياته.

على العكس من ذلك، فقد فرضت قطر قيَمَها على الجميع، وأكّدت أنّ الحريات الشخصية تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين، وانتصرت لهويتنا وثقافتنا العربية والإسلامية، ونجحت في ذلك.

ما حدث يشير إلى التنافس القيَمي والأخلاقي بين الشرق والغرب، وقد كان هذا التنافس على أشده، إذ كانت القيَم الأخلاقية لشعوب الشرق جليّة بينما كانت المثلية قيمة الغرب الأخلاقية، وهذا تعبير واضح عن المستوى القيَمي والحضاري والأخلاقي لكل منهما.