سوريا ولبنان أزمة واحدة في بلدين.. بين التفاقم والحلول

من السذاجة في مكان أن يتوقع أحدنا أن الحلول في لبنان وسوريا تأتي بصورة منفصلة، أو يأتي أحدها على حساب الآخر.

  • سوريا ولبنان أزمة واحدة في بلدين.. بين التفاقم والحلول
    سوريا ولبنان أزمة واحدة في بلدين.. بين التفاقم والحلول

يقول هنري كيسنجر، الديبلوماسي والمفكّر الأميركي العريق، إن لا حرب مع "إسرائيل" من دون مصر، كما أن لا سلام معها من دون سوريا. وما قصده كيسنجر بالحرب ليس بمفهوم الحروب القصيرة، التي تؤدي إلى احتلال أجزاء من دول الطوق أو تحريرها، بل الحرب بمعنى تحرير فلسطين وإنهاء الحالة الصهيونية هناك. مصر اليوم، بعد مرحلة تطبيع السادات وما تبعها من استقرار في العلاقات الثنائية مع الكيان، هي في مرحلة تطوير واضحة لهذه العلاقات في أصعدة متعددة، أهمها ما يتعلق بالأمن الطاقوي وتسييل الغاز وتصديره إلى أوروبا. فمصر، اليوم، كما بات معروفاً، أصبحت محطّة ضخمة لتسييل الغاز تلجأ إليها "إسرائيل"، بصورة أساسية، من أجل تسويق غازها وإيصاله إلى أوروبا. وبالتالي، فإن الجزء الأول من مقولة كيسنجر مؤجَّل بطبيعة الحال، وغير ممكن في الوقت الراهن، ما دامت مصر اليوم بعيدة كل البعد عن أي نزاع عسكري مع الكيان الصهيوني، بل، على العكس، هي تبدو أكثر انسجاماً وتماهياً مع المخطط الصهيوني، حتى لو كان ذلك متناقضاً مع تاريخ مصر وتطلعات شعبها الرافضة لفكرة التطبيع، إلى يومنا هذا.

 فماذا عن سوريا والسلام؟

كانت سوريا تستغلّ حاجة الشرق والغرب إلى موقعها الجيوسياسي، قبل مجيء المحافظين الجدد إلى سدّة الحكم في أميركا، عبر موقعها الاستراتيجي ومساهماتها في استقرار ساحات أخرى كثيرة، منها الساحة اللبنانية، في مرحلة ما قبل الطائف وما بعده، إلّا أنّ تبدّل المشروع الأميركي في المنطقة أدّى إلى أن تصبح سوريا الهدف بعد أن كانت الشريك الاستراتيجي في ملفات وقضايا متعددة. لم تغيّر سوريا، في عهد الرئيس بشار الأسد، أيّاً من أساسيات نهج الرئيس الراحل حافظ الأسد، بينما من حوّر نهجه ومشروعه وأداءه، سياسياً، هو الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا، ليكون القرار 1559 تكريساً لهذا النهج الغربي الجديد تجاه لبنان وسوريا. هذا التحوّل الجذري في كيفية التعاطي الغربي مع المنطقة لم يكن سراً تُخفيه واشنطن، بل هي أعلنت، بصراحة تامة، أنها تعمل بصورة جادة وحثيثة على ولادة شرق أوسط جديد. أوج هذا الاستهداف لسوريا وحلفائها، في مرحلته الأولى، كان في حرب تموز/يوليو 2006، بحيث أرادت أميركا، قبل "إسرائيل"، إدخال لبنان في العصر الإسرائيلي، والاستفراد بخاصرة سوريا الرخوة تمهيداً لمرحلة خنقها وجرّها، في نهاية المطاف، إلى توقيع سلام مذلّ مع الكيان الصهيوني.

فشلت حرب تموز/يوليو في كسر أهم حلفاء سوريا في لبنان، لتأتي نتائج هذا الفشل الأميركي ـ الإسرائيلي مدويّةً على خطة أميركا و"إسرائيل" تجاه المنطقة برمّتها، ولتبدأ بعدها المرحلة الثانية من الضغوط الأميركية على سوريا ولبنان، وتحديداً في ربيع عام 2011، عندما بدأ تنفيذ مخطط إفراغ سوريا، الدولة والمجتمع، من كل مقوّماتها، ومحاولة إضعافها إلى حدّ الاستسلام، عبر إشعال الفوضى فيها، تحت مسمى الثورة والحريّات، على قاعدة "عقيدة الصدمة". لم يترك الغرب، وجزء من العرب المتحالف معه، أي أسلوب لإخضاع سوريا. كل ما يمكن استخدامه في الحرب هناك أرسله الغرب ومن حالفه، من مال وأسلحة وخبراء ومدرّبين ومرتزقة. تم إرسال كل شيء، إلّا أن الكلمة الفصل كانت لدمشق وحلفائها. 

صمدت سوريا على رغم كل الصعوبات، بمساعدة حلفائها: حزب الله، عسكرياً ولوجستياً؛ إيران، اقتصادياً وأمنيا؛ روسيا، سياسياً في المحافل الدولية، وعسكرياً عبر المشاركة الجوية لاحقاً. هذا الصمود السوري، سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، لم يجنّب سوريا دخولها في أزمة اقتصادية خانقة بعد اشتداد الضغوط الأميركية والغربية عليها، فجاء "قانون قيصر" الأميركي كي يفاقم معاناة السوريين. والهدف هنا واضح ومحدَّد: على سوريا أن تستسلم بأي طريقة. لم يكن لبنان، ذو الاقتصاد الصغير نسبياً بالمقارنة مع الاقتصاد السوري، بعيداً عن هذه المعاناة، بحيث شكّل عدد النازحين السوريين الكبير في أراضيه، والهاربين من ويلات الحرب، عبئاً كبيراً على اقتصاده. وإذا أضفنا الفساد والتهريب والحصار الأميركي، غير المعلن أحياناً، والواضح أحياناً أخرى، فيصبح مفهوماً كيف أن الاقتصاد اللبناني لحق بأزمة سوريا وانهار.

يذكر الكاتب والأكاديمي الأميركي، أرون تايلور براند، في دراسة له نُشرت عام 2014 في الجامعة الأميركية في بيروت، أهم أسباب المجاعة التي حدثت في لبنان وسوريا في خضم الحرب العالمية الأولى. يقول تايلور براند: لم تكن المجاعة في هذين البلدين إلّا نتيجة لعوامل كثيرة، منها داخلية متعلقة بالتجار وجشعهم، وفساد السياسيين المنتفعين من الأزمة وتجارها، وعوامل متعلقة بالدولة العثمانية التي فرَّغت الاقتصاد اللبناني والاقتصاد السوري من اليد العاملة الشابة، التي أجبرتها على اللحاق بالجيش العثماني، الذي كان يخوض معارك صعبة ضد بريطانيا وفرنسا وسائر الحلفاء. كما يذكر الكاتب في دراسته أنه كان هناك أيضاً عامل الحصار الفرنسي ـ البريطاني للسواحل السورية واللبنانية، والذي لم يمنع فقط وصول القمح والحبوب إلى هذين البلدين، بل منع أيضاً التحويلات المالية القادمة عبر البحار، ومن القارتين الأميركيتين على وجه الخصوص. وما أشبه البارحة باليوم: أزمة اقتصادية متشابهة، إلى حد التطابق، ومتفرعة ومتداخلة بين لبنان وسوريا، لتبدو مقولة "وحدة المسار والمصير" واقعية أكثر من أي وقت مضى.

فهل نستطيع أن نقول إن لبنان وسوريا: أزمة واحدة في بلدين؟

كثرت التحليلات السياسية خلال الحرب السورية بشأن مكامن المصالح الأميركية والأوروبية من جهة، والعربية من جهة أخرى، في الفوضى في سوريا. يلخّص البعض أن مصلحة أميركا وأوروبا، من إضعاف سوريا ومحاولة إنهاء حالة المقاومة فيها، تكمن في مجال الطاقة تحديداً، على أن الخطط الغربية تجاه روسيا ومستقبل العلاقات الاقتصادية بها، فيما خص استيراد النفط والغاز، كانت تستلزم من الدول الأوروبية، عبر مساعدة أميركية، البحث بجدّية عن بدائل مستدامة للطاقة الروسية. وهنا، تقاطعت المصالح الغربية مع المصالح العربية، وتحديداً الخليجية منها. لذلك، فشل الغرب في فرض مشروعه على دول المنطقة، بدلاً من اتخاذها شريكاً سياسياً واقتصاديّاً، وتوقيع تفاهمات واتفاقيات عادلة للجميع. ومن المنطقي، استناداً إلى البراغماتية الأميركية، أن يعمل الغرب على الجنوح نحو التسويات التي تُرضي الجميع، والتي ستساهم، في المحصلة، في استقرار الأمن الطاقوي العالمي، الذي تحتاج إليه أوروبا تحديداً اليوم، بصورة طارئة.

انطلاقاً مما سبق، فإن سوريا أصبحت اليوم، بعد الحرب المفروضة عليها، أقرب إلى أضلع محور المقاومة أكثر من قبل الحرب، وسيعود نهوضها، سياسياً واقتصادياً، بالفائدة على الجميع، وخصوصاً لبنان. من البديهي أن لا حلول ولا نهوض في لبنان إلّا بالتوازي مع سوريا. كيف لا، وانهيار الوضع في لبنان، خلال الأعوام الماضية، كان جزء كبير منه يعود إلى تفاقم الأزمة في سوريا، ربطاً بملف اللاجئين السوريين ومعضلة التهريب عبر الحدود. 

وعليه، فإن من السذاجة في مكان أن يتوقع أحدنا أن الحلول في لبنان وسوريا تأتي بصورة منفصلة، أو يأتي أحدها على حساب الآخر. لهذا، من المتوقع، عاجلاً أو آجلاً، أن تنطلق عجلات التسويات في المنطقة، وخصوصاً في البلدين الشقيقين، في الأشهر القليلة المقبلة. وليس الحوار التركي السوري، برعاية إيرانية – روسية – إماراتية، إلّا دليلاً على أن الدول، التي تحاصر سوريا منذ أعوام، باتت مقتنعة بأن لا حل في المنطقة من دون إرضائها وحماية مصالحها.

فتركيا، مثلاً، التي تشارك سوريا في مساحة جغرافية كبيرة، والتي تشاطرها هواجسها ومخاوفها، وخصوصاً تلك المتعلقة بالظاهرة الكردية وأمن الحدود المشتركة وملف النازحين، أصبحت مجبرة على التعاطي مع الدولة السورية بواقعية وبراغماتية أكثر. وإذا أضفنا موضوع الطاقة وإمداداتها من المنطقة العربية إلى أوروبا، عبر سوريا وتركيا، تصبح المصالح المشتركة أهم عامل للنجاح والاستمرار لأي تسوية وحل بين البلدين. 

لبنان، الذي ينتظر بفارغ الصبر دخوله عالم الطاقة من باب التنقيب والاستخراج في بحره، بدءاً من شهر آذار/مارس المقبل، بعد توقيعه اتفاق الحدود البحرية جنوباً بوساطة أميركية في نهاية العام المنصرم، سيحتاج قريباً إلى إيجاد أسواق خارجية لغازه، والبحث عن طرق سريعة لتسويقه وبيعه. ومَن غير سوريا يستطيع تحقيق مصالح لبنان في هذا الملف؟ بما أن كل مشاريع الإمدادات البحرية من شرقي المتوسط إلى أوروبا مؤجلة، ولم تجد لها التمويل اللازم، فلم يبقَ للبنان سوى الطريق البري كسبيل أمامه إلى إيصال غازه إلى أوروبا. وهنا دعونا نستذكر معاً الرغبة الأميركية، خلال المفاوضات بشأن ملف الترسيم البحري، ومفادها أن يستورد لبنان الغاز براً من مصر من خلال خط أنابيب يمر عبر الأردن وسوريا. حينها، كان المبرر أن أميركا تسعى لتساعد لبنان في موضوعَي الكهرباء والطاقة، عبر إيجاد سبل جديدة ومبتكرة، ليصطدم بعدها لبنان، بعد توقيعه كل الاتفاقات اللازمة مع كل من مصر الأردن وسوريا، بأن هذه الرغبة الأميركية كانت كاذبة، أو أنها تهدف إلى مشروع آخر لم تكن ترغب في إعلانه. فهل أرادت واشنطن أن تفعّل خط الأنابيب العربي هذا، والذي يمتدّ من مصر إلى سوريا ولبنان، وتتأكد من سلامته بعد الحرب في سوريا، كي تستخدمه لاحقاً بشكل عكسي لمد أوروبا بالغاز، إن كان عبر تسييله في مصر ونقله بالناقلات البحرية، أو عبر سوريا وتركيا برّاً؟ 

أخيراً، قد تكون الحرب الأوكرانية أخّرت كل الحلول في المنطقة، نوعاً ما، إلّا أنها قد تصبح سبباً مشجعاً على تسريع التسويات في المستقبل القريب. ولأن روسيا وصلت إلى خط اللاعودة مع أوروبا وأميركا، فإن استقرار سوريا وعودتها إلى الساحة الدولية، لاعباً إقليمياً، وربما دولياً، هما أمر مهم لها. كما أن الاستقرار يصب في مصلحة الغرب، الذي يبحث عن مصادر آمنة للطاقة حول العالم، ولن يجد أقرب من منطقة شرقي المتوسط كي تحقق له هذا الهدف، وإن كان ذلك متناقضاً مع سياسة أميركا، التي انتهجتها طوال عقود طويلة، والتي تعتمد على الهيمنة والفرض، لكن البراغماتية والواقعية، سياسياً واقتصادياً، هما حاجة ضرورية لأوروبا اليوم أكثر من أي وقت مضى.