روسيا وأوكرانيا.. آخر الدّواء الكَيّ

الولايات المتحدة الأميركية، الداعمة والراعية للحكم الأوكراني منذ منتصف العقد الماضي، أرادت لأوكرانيا أن تكون قاعدة جديدة للناتو، ومن خلفه أميركا، على تخوم موسكو.

  • روسيا اليوم أقوى من أيّ وقت مضى
    روسيا اليوم أقوى من أيّ وقت مضى

أكثر من مرة، أطلّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على العالم عبر خطاب متلفز لشرح الأسباب الموجبة التي تدفع روسيا إلى شنّ هجوم "دفاعي على أوكرانيا"، وأسهب في شرح الأصول التاريخية لمجريات اليوم، وربط الأمور بشكل متسلسل يسمح للجمهور بفهم ماهية الهواجس الروسيّة، فضلاً عن ذكره المحاولات المتكررة مع الشركاء الدوليين والغرب لحلِّ الأزمة من دون اللجوء إلى الخيار العسكري، لكن، وبحسب قوله، لم تلقَ كلّ هذه الحلول آذاناً صاغية أو أذهاناً مريدة، بل أُديرت كلّ العيون العمياء للقضيّة.

الولايات المتحدة الأميركية، الداعمة والراعية للحكم الأوكراني منذ منتصف العقد الماضي، أرادت لأوكرانيا أن تكون قاعدة جديدة للناتو، ومن خلفه الولايات المتحدة، على تخوم موسكو. وفي حال انتشرت هذه القواعد والبطاريات، فسوف تكون على بعد 10 ساعات عن العاصمة الروسية، في تهديدٍ داهمٍ ودائمٍ للدب الروسي.

قبيل العمليّة الروسية، وفي رسالة واضحة إلى أوروبا والولايات المتحدة، قال بوتين إنَّ روسيا لن تسمح لأوكرانيا بأن تكون منطلقاً لأيّ تهديد لها، وبعث رسالة إلى الداخل الروسي والرأي العام العالمي بأن كلفة الإجراء الموضعي الروسي في أوكرانيا أقلّ من كلفة أزمة وجود الناتو على تخوم موسكو وما ستستتبعها من مناوشات قد تؤدي إلى حرب عالميّة.

قبل ذلك، كان الأميركيون، بشخص الرئيس بايدن، يلقون الخطابات الداعمة والمشجّعة لأوكرانيا في وجه روسيا، وكان بوتين قد حذّر الغرب من مغبّة أي تدخّل مباشر، علماً أن الأخير لن يقدم على هذا الفعل.

في سياق هذه الأحداث، تبرز الضريبة التي يدفعها أيّ شعب نتيجة خيارات قيادته والتموضع السياسي الذي تختاره. حكماً، إنّ الأبرياء في أوكرانيا سيدفعون جزءاً من ثمن هذا الإجراء الذي انجرّت قيادته إليه بفعل الولايات المتحدة. التموضع في وجه روسيا قد يكون آخر اهتمامات الأوكرانيين الذين تعاني دولتهم من فساد مستشرٍ ونسب بطالة مرتفعة، فضلاً عن أزمات معيشية واجتماعية متلاحقة.

من الواضح أنَّ روسيا حضّرت لسنوات من أجل ساعة الصفر هذه. نلمس ذلك من سرعة الهجوم والأهداف المنتقاة والدقة في إصابتها، فضلاً عن جهوزيّة قوات إقليم دونباس، التي يبدو أنها تطوّرت كثيراً منذ العام 2014 إلى اليوم. 

وإلى جانب الجهوزيّة العسكرية، يبدو أنّ روسيا اليوم جاهزة لتلوي سيف العقوبات الأميركية – وهي ورقة الضغط القصوى التي يستطيع الأميركيون لعبها في ظرف كهذا - فقد جهّز بوتين روسيا لسيناريو مماثل، من خلال لجم الإنفاق والتحضير لشبكة ماليّة تغني روسيا عن نظام التعاملات المصرفية التابع لواشنطن وعملتها، وما يعرف بنظام "swift"، مع العلم أنّ فصل روسيا عن هذا النظام سيترك تبعاته على أوروبا والغرب عموماً، وهو ما حذّرت منه ألمانيا، ولن تجرؤ عليه إدارة بايدن بالأصل. من هنا، إنَّ أقصى ما قد تؤدي إليه العقوبات سيدور في فلك عقوبات شخصيّة على الرئيس بوتين وبعض المصارف الروسيّة.

إنَّ أوروبا، التي تعتمد على الغاز الروسي، تعلم جيّداً مدى فعالية هذا السلاح الروسي الذي قد يعادل القدرة النووية، بحيث إنّ روسيا؛ الطرف الذي يبيع هذا الغاز، "عايز ومستغني" نسبيّاً، نظراً إلى تأسيسها علاقات تسويقيّة لهذا الغاز مع الصين، وهي وحش بشري واقتصادي نهم يمكنه أن يكون خياراً بديلاً لتعويض أي انقطاع لبيع هذا الغاز لأوروبا. 

وبالتالي، أوروبا ليست مستعدّة اليوم لتأمين بدائل هذا الغاز الَّذي تعتمده في المصانع والتدفئة والاستعمال اليومي، على عكس روسيا الجاهزة أكثر لأيّ سيناريو تجاري ومالي قد توقعها فيه أوروبا ومن يقف خلفها.

باختصار، روسيا اليوم أقوى من أيّ وقت مضى، وهي جاهزة لمواجهة المخطّط الأميركي لكي تعود قطباً وازناً في النظام العالمي. ويبدو أنَّ إدارة بايدن ستُفقد أميركا القدرة المعتادة على فرض الأحادية القطبية والسيطرة السهلة نسبياً على العالم. وقد بدا هذا التقهقر جلياً قبل خيار الانسحاب من أفغانستان.

استنفدت روسيا حلولها، وبات آخر الدواء الكيّ. لم يختَر بوتين ساعة الصّفر هذه إلا لأنّه لم يعد يملك رفاهية الوقت في ظلِّ وجود تهديد فعلي لروسيا، وصار الإجراء الموضعي العسكري واجباً. وبالتأكيد، اختار نقطة المئة، أي النهاية، كما اختار نقطة البداية، بانتظار أن يأتي الأوروبيون والأميركيون إلى طاولة المفاوضات، وبشروطه وأوراقه القويّة التي فرضها بقوة جيشه على كييف ومن جرّها إلى هذه الأزمة.

حلف الناتو يحاول التمدد باتجاه الشرق قرب حدود روسيا، عن طريق ضم أوكرانيا، وروسيا الاتحادية ترفض ذلك وتطالب بضمانات أمنية، فتعترف بجمهوريتي لوغانسك ودونيتسك، وتطلق عملية عسكرية في إقليم دونباس، بسبب قصف القوات الأوكرانية المتكرر على الإقليم.