رسائل أصفهان ومآلات الصراع بين إيران و"إسرائيل"
تبدو الضربة التي شنّتها إيران بالنسبة للعديد من الإسرائيليين مبعثاً لتعزيز المخاوف. ففي نهاية المطاف، إذا ثبت أن الترسانة النووية الإسرائيلية غير كافية لردع أي ضربة تقليدية إيرانية الآن.
يعتقد مراقبون بأنّ الإدارة الأميركية بدأت تدرك بأنها تدعم المصالح الإسرائيلية بتكلفة سياسية كبيرة، في الوقت الذي لا يستجيب فيه نتنياهو للطلبات والنصائح الأميركية، والتي تركّزت على عدم الردّ على الهجوم الإيراني، والاكتفاء بحملة التضامن الغربية مع "إسرائيل"، على أمل تعديل اتجاهات الرأي العام العالمي المتعاطف مع الفلسطينيين.
وعلى الرغم من أنّ الضربة الإسرائيلية على أصفهان جاءت رمزية إلا أنها أثارت عدة أسئلة حول عدم إصغاء نتنياهو إلى الولايات المتحدة بعدم الردّ على إيران. فقد جاء الردّ الإسرائيلي مؤشّراً على أنّ "إسرائيل" وإيران مستمرتان في صراع مباشر في مدى غير منظور. وطالما استمرّ هذا الصراع، فإنّ المنطق العملياتي لذلك الصراع سوف يدفع نحو التصعيد.
وقد يكون الهجوم الإسرائيلي على أصفهان متعلّقاً بطموحات بنيامين نتنياهو السياسية، الذي لا يحظى بشعبية كبيرة داخل "إسرائيل" بعد خسارته لشرعيته السياسية المزعومة وفشله في ضمان أمن "إسرائيل"، ولذلك فمن المتوقّع أن يسعى نتنياهو للحرب مع إيران من أجل استعادة صورته في الداخل الإسرائيلي، أو على الأقل، لإطالة أمد محاسبته السياسية على نتائج طوفان الأقصى، وبالتالي، أيّ حرب مع إيران، ستزيد من فرص بقائه السياسي.
مع أن نتنياهو ليس الطرف الوحيد الذي يضغط باتجاه الحرب مع إيران، فرغم أنه في وضع يائس سياسياً، لكن الضغط من أجل الانتقام من إيران يأتي من بعض الأصوات داخل "إسرائيل"، وبعض هذه الأصوات جاءت من خصوم نتنياهو السياسيين، مثل غانتس وغالانت وغيرهم ممن يأملون اختفاء نتنياهو من المشهد الإسرائيلي.
وبحسب استطلاعات للرأي داخل "إسرائيل"، من المرجّح أن يفشل نتنياهو بالاستمرار في منصبه إذا جرت الانتخابات بشكل مبكر. كما أن ثلاثة أرباع الإسرائيليين يعارضون شنّ هجوم على إيران إذا كان يؤدي إلى تقويض التحالف الأمني لـ "إسرائيل" مع حلفائها ولا سيما الولايات المتحدة الأميركية.
كما أن أكثر من نصف الإسرائيليين طالبوا بالاستجابة بشكل إيجابي للمطالب السياسية والعسكرية لحلفاء "إسرائيل" من أجل ضمان نظام دفاعي مستدام. وحتى داخل ائتلاف نتنياهو، لم يكن الهجوم على أصفهان بمثابة نصر سياسي. فقد وصفه وزير الأمن القومي اليميني إيتمار بن غفير بالضعيف.
كما تبدو الأسباب التي أعلنتها "إسرائيل" للهجوم على أصفهان جوفاء حتى لو تحدّث الإسرائيليون عن ضرورة إرسال رسالة إلى إيران، لأن تاريخ "إسرائيل" يُظهِر أن استخدامها للقوة نادراً ما يعطي النتيجة المرجوّة. فقد فشلت العمليات العسكرية الأربع التي نفّذتها "إسرائيل" في غزة قبل العدوان الحالي في ردع حماس، كما أظهرت عملية طوفان الأقصى بشكل واضح.
إنّ ما يجري بين إيران و"إسرائيل" ونتائجه الحالية ليس جديداً، وهناك عدد من الحالات التي فشلت فيها "إسرائيل" بالفعل في تلقين خصومها دروساً بالقوة العسكرية. وأفضل مثال على ذلك هو الحرب العدوانية على لبنان عام 2006، التي بدأت بعد عملية لحزب الله اللبناني، فرغم أنّ "إسرائيل" شنّت حرباً شاملة مدمّرة على لبنان استمرت 34 يوماً، خسرت فيها 121 جندياً إسرائيلياً، فإنها لم تنجح في إضعاف أو تقويض حزب الله، فما بالك بالضربة المحدودة التي وجّهتها "إسرائيل" ضد إيران في أصفهان.
لقد هزّ الردّ الإيراني صورة الردع الإسرائيلية للمرة الأولى من دولة كإيران ذات وزن مؤثّر على الصعيد الإقليمي، بعد أن كانت هذه الصورة قد تخلخلت على الصعيد الفلسطيني بعد هجوم طوفان الأقصى. ولكنّ الأهم من ذلك هو أن مكانة "إسرائيل" الاستراتيجية تضعضعت أكثر، بعد أن تأكّد للمرة الثانية خلال 6 أشهر حاجتها للتدخّل الأميركي والغربي لحمايتها بدلاً من أن تكون هي قاعدة متقدّمة للمشروع الغربيّ. كما أن "إسرائيل" فقدت هيبتها ومكانتها في المنطقة بعد أن أصبحت مفتوحة أمام الصواريخ والمسيّرات الإيرانية.
وبطبيعة الحال، يبقى الانتقام دافعاً أساسياً وراء رغبة إسرائيليين متطرفين في ضرب إيران، فقد غيّرت إيران وبشكل مباشر القواعد غير المكتوبة لحرب الظل بينها وبين "إسرائيل"، وبقيت "إسرائيل" بأكملها ضمن الملاجئ. ومن المفهوم أن بعض الإسرائيليين أرادوا ـــــ وما زالوا يريدون ـــــ الردّ. ولكن المخاطر العسكرية والدبلوماسية التي تواجه "إسرائيل" والمنطقة ككلّ قد تؤدّي إلى اندلاع حرب إقليمية.
لذلك ليس من المستبعد حدوث هجمات إسرائيلية مجدّداً بشكل غير مؤثّر وشبيهة بهجوم أصفهان، والذي تمت معايرته بحيث لا يؤدي إلى تصعيد خطير. ومن جانب آخر، وحتى قبل هجوم أصفهان، كانت الرؤية الأميركية بأن إيران فقدت مجموعة من أبرز أعضاء حرس الثورة، بينهم قيادي رفيع في فيلق القدس، وهي خسارة باهظة لإيران كما تعتقد الإدارة الأميركية وكافية لموازنة ميزان الخسائر بين طرفي الصراع.
لقد بقي الصراع الإيراني الإسرائيلي في الظل في معظمه لسنوات، ولكن منذ عملية طوفان الأقصى، خرج هذا الصراع إلى النور، فالقاسم المشترك بين الجماعات المقاوِمة كافةً التي تهاجم "إسرائيل" هو أنها مموَّلة ومدرَّبة ومجهَّزة من قِبل إيران. وبعد الردّ الإيراني وردّ "إسرائيل" الهزيل، أصبحت قوة الردع لصالح إيران. وبحسب القراءات والمؤشّرات الأولية فإن إيران قد تتخلّى عن الردّ في الوقت الحالي، وهذا ما سوف يعطي الولايات المتحدة والمنطقة فسحة من الراحة.
على الرغم من أنها لن تدوم طويلاً، بل من المرجّح أن تظل "إسرائيل" تحت قيادة نتنياهو بحاجة إلى الاستمرار في ضرب إيران من خلال استهداف وكلائها بذريعة قطع الدعم المادي والاستراتيجي والعسكري من إيران إلى وكلائها، وذلك على عكس ما أعلنته إيران بأنّ الردّ قد انتهى. وبحسب الذرائع الإسرائيلية، طالما استمرت إيران في دعم وكلائها وظلّ هؤلاء الوكلاء منخرطين في الصراع مع "إسرائيل"، فإنّ الضربات الإسرائيلية ستستمرّ.
وهناك سبب آخر يدفع "إسرائيل" إلى العمل العسكري ضد إيران، غير مآلات الصراع التقليدي معها، وهو البرنامج النووي الإيراني. فمنذ انهيار الاتفاق النووي الإيراني، أصبحت إيران أكثر قرباً من امتلاك التقنيات النووية. ولطالما شعر القادة الإسرائيليون بالقلق من أن إيران المسلحة نووياً ستتشجّع على زيادة دعمها لوكلائها، إن لم تستخدم الأسلحة لمهاجمة "إسرائيل" بشكل مباشر.
لذلك تبدو الضربة التي شنّتها إيران بالنسبة للعديد من الإسرائيليين مبعثاً لتعزيز المخاوف. ففي نهاية المطاف، إذا ثبت أن الترسانة النووية الإسرائيلية غير كافية لردع أي ضربة تقليدية إيرانية الآن، فلماذا تعتقد "إسرائيل" أنها قادرة على ردع إيران النووية؟ وهذا ما يتذرّع به قادة الكيان الإسرائيلي لزيادة عدد الهجمات على وكلاء إيران في المنطقة.
وعلى الرغم من التحديات العسكرية الكبيرة التي تواجهها، تعتقد "إسرائيل" أنها بحاجة إلى الاستمرار في ضرب الأهداف الإيرانية، حتى من دون دوافع سياسية ومع احتمالات الردع الإيراني، فطالما ظلت "إسرائيل" وإيران منخرطتين في الصراع، فسوف تستمران في تبادل الضربات ـــــ بغض النظر عمّا قد تنصح به الولايات المتحدة وحلفاؤها الآخرون "إسرائيل" لتجنّب التصعيد.