"ربيع أوكرانيا الساخن" وتداعياته على سوريا ولبنان
لم يكن ينقص الأزمة السورية إلّا صراع دوليّ بين محوري الغرب والشرق، لتزداد تعقيداً، خاصةً أن هذا الصراع قد لا ينتهي قبل سنوات عديدة وربما عقود طويلة.
لم يعد خفيّاً على أحد بأنّ المحور الغربي المعادي لروسيا بدأ منذ وقت ليس ببعيد بالتحضير والتحشيد العسكري لمعركة ضخمة في الربيع المقبل في أوكرانيا، تحت عنوان "معركة الأسلحة المشتركة". وهو مصطلح عسكري اشتهر في أوائل القرن التاسع عشر، ولا يزال يُدرّس حتى اليوم في الكليات الحربية حول العالم. مفاده، أن يتم استخدام مختلف أنواع الأسلحة بشكل منسّق وتكاملي في معركة واحدة، من أسلحة ثقيلة كالدبابات التي ضغطت أميركا بقوّة لجمعها مؤخّراً من ألمانيا وبريطانيا ودول أوروبية أخرى تحت ما بات يُسمّى “بحلف الدبّابات”، إضافةً إلى قوّات مشاة يُعمل على تدريبها في معسكرات غربية، وسلاح صاروخي وجوي وطائرات مسيّرة متطوّرة، وربّما أسلحة أخرى.
إذاً، كما بات معلوماً، رضخت ألمانيا مؤخراً للضغوط الأميركية وتعهّدت بإرسال دبابات من نوع ليوبارد 2 و1 إلى الجيش الأوكراني، كما حذت حذوها بريطانيا وفرنسا ودول غربية أخرى. فإنّ الإشراف الأميركي على “حلف الدبابات”، الذي أصبح يضم أكثر من اثنتي عشرة دولة غربية حتى الآن، أوصل العدد الإجمالي للدبابات الموعودة بها كييف إلى ما يقارب الـ400 حتى اللحظة. إلّا أنّ روسيا التي تراقب وتحضّر لمفاجآت قد تكون كبيرة بُعيد انتهاء فصل الشتاء، جدّدت تحذيراتها من أن إمداد أوكرانيا بالأسلحة الثقيلة سيرفع المواجهة بين حلف الناتو وروسيا إلى مستوى خطير.
وفي بيان صادر نهار الخميس في 26 كانون الثاني/يناير عن الكرملين، اعتبر الأخير أن إرسال دول غربية الدبابات إلى كييف هو تورّط مباشر في النزاع، إضافة إلى ما قاله الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مؤخّراً عن أن الحرب مع روسيا ستكون مختلفة هذه المرّة، وأنّ واشنطن عبر ضغطها على ألمانيا تدفع الأخيرة للحرب مع روسيا مجدّداً، مذكّراً بحقبة “هتلر” خلال الحرب العالمية الثانية. كل هذا الاشتباك الإعلامي بين روسيا والغرب، قد يعني شيئاً واحداً؛ بأن الربيع الأوكراني سيكون مشتعلاً وعاصفاً برياح "غربية خماسينية".
فهل ربيع أوكرانيا الساخن سينعكس سلباً في سوريا ولبنان؟
لم يكن ينقص الأزمة السورية إلّا صراع دوليّ بين محوري الغرب والشرق، لتزداد تعقيداً، خاصةً أن هذا الصراع قد لا ينتهي قبل سنوات عديدة وربما عقود طويلة. فقبيل اندلاع الحرب الأوكرانية، كانت انتصارات الجيش العربي السوري وحلفائه في مختلف أرجاء سوريا، تقلق الغرب وبعض زعماء العرب بشكل كبير، وما اغتيال الجنرال قاسم سليماني إلّا تعبيراً وقحاً من الإدارة الأميركية على غضبها من إنجازات محور المقاومة. ولو تأخّرت حرب أوكرانيا قليلاً لربما شهدنا المزيد من تحرير الأراضي في سوريا والتي من الطبيعي أن تليها مفاوضات جادة وصعبة بين مختلف الأطراف المشاركة في الحرب. بينما الصدام الغربي الشرقي الذي بدأ في شباط/ فبراير الماضي كانت له كلمة أخرى، والذي تأجّلت على إثره التسوية في سوريا الى أجل غير مسمّى.
سوريا التي تحتل جزءاً من أراضيها كل من "إسرائيل" تركيا وأميركا، والتي تقع أيضاً على ساحلها قاعدة عسكرية كبيرة ومهمّة لروسيا في حميميم، جعل منها أرضاً خصبة تتصارع عليها كل هذه التناقضات الإقليمية والدولية. ممّا عقّد أكثر إمكانية التوصّل إلى حل نهائي للأزمة هناك.
شهدت دمشق في الشهور الماضية حراكاً دبلوماسيّاً لافتاً، ولا سيّما على الصعيد العربي، حيث زار وزير خارجية دولة الإمارات المتّحدة دمشق غير مرّة، وتلتها عودة سفراء دول عربية أخرى إلى دمشق مجدّداً، إضافةً إلى الزيارات المتبادلة على المستوى الأمني مع المملكة العربية السعودية.
أمّا على خط أنقرة-دمشق فتبدو الأمور أكثر تعقيداً بالنسبة للجميع، فبعد أن صرّحت تركيا مراراً على لسان مسؤوليها عن عزمها إجراء محادثات بصورة مباشرة مع القيادة السورية لتطبيع العلاقات معها، جرت عدّة لقاءات بين الطرفين بوساطات روسية وإيرانية، وربما إماراتية، إلا أنّ هذه المحادثات لم تثمر بعد أي نتائج ملحوظة، ربّما لأسباب لا تتعلق فقط بالطرفين، بل أيضاً بسبب محاولات أميركية حثيثة لإبقاء التوتر في سوريا قائماً لمدّة أطول بما يخدم مصالحها.
فسوريا التي تحوي في جغرافيّتها كل هذه التناقضات، أصبحت ساحة لتصفية الحسابات بين روسيا وأميركا من جهة وبين أميركا-"إسرائيل" ومحور المقاومة من جهة أخرى، منذ فترة طويلة. كلّ هذا ومعركة الربيع لم تبدأ بعد في أوكرانيا. فماذا عن السيناريوهات التي من الممكن أن تواجهها المنطقة بسبب هذا المستجدّ العالمي؟
قبل اشتعال فتيل الحرب في أوكرانيا، عبّر الرئيس الأميركي جو بايدن أكثر من مرّة، خاصة خلال حملته الانتخابية، عن امتعاضه من سياسات الرئيس التركي، وما تعيين منسّقه الخاصّ في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الدبلوماسي “بريت ماكغورك”، إلّا دليلاً واضحاً على نوايا بايدن السلبية تجاه أنقرة، فماكغورك، الذي وصفته الصحافة التركية ذات مرّة “برأس الأفعى”، أدّى دوراً مهاماً في عهد الرئيس السابق باراك أوباما، في الإشراف على تشكيل مجموعات “قسد” الكردية في شرق سوريا ودعمها عسكرياً.
ولكن على ما يبدو، إنّ إعلان موسكو الحرب في أوكرانيا في شباط/فبراير الماضي، أجبر بايدن على تأجيل مخططاته تجاه الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، بحيث اكتسبت أنقرة دوراً سياسياً مهماً فرضته التطوّرات الجديدة في أوكرانيا، فأدّت دور الوساطة بين أطراف النزاع في أكثر من ملف، ممّا منح إردوغان متّسعاً من الوقت، وهامشاً كافياً لتحضير نفسه لأي تأزّم مستقبلي في العلاقة مع الإدارة الأميركية.
انطلاقاً من دور أنقرة المؤثّر في الصراع بين روسيا والغرب، أصبحت مؤخراً إمكانية عودة علاقاتها مع دمشق إلى طبيعتها أمراً ممكناً، لا بل قد تكون هذه الظروف المستجدّة في العالم والمنطقة، بمثابة الفرصة الذهبية لكلا الطرفين على حد سواء.
ولكن ماذا عن موقف واشنطن تجاه كل هذا الحراك الدبلوماسي تجاه دمشق؟
إنّ كل هذا السعي العربي والتركي لإعادة التواصل مع سوريا كسبيل ضروري لحلحلة الأزمة هناك، يصطدم بمعارضة أميركية وإسرائيلية بشكل واضح. فمن الطبيعي أن تسعى أميركا إلى التشويش على أي تقارب بين سوريا ومحيطها لأسباب عديدة؛ أوّلًا، إنّ أي انفتاح إقليمي ودولي على سوريا سيكون عبارة عن إعلان هزيمة المشروع الغربي هناك، وستصبح دمشق أكثر قدرةً على الصمود اقتصادياً في وجه العقوبات الأميركية المفروضة عليها، وهذا ما لن تقبل به بلاد العم سام بسهولة. ثانياً، مع بداية معركة الربيع المقبل في أوكرانيا، ستجنح إدارة بايدن أكثر نحو عرقلة أي حل أو انفراج في سوريا، لتجنّب أي استفادة روسية وإيرانية مباشرة أو غير مباشرة.
عطفاً على ما سبق، إن واشنطن لا تألو جهداً لكي تجد لنفسها في سوريا والمنطقة العديد من الأدوات التي من الممكن أن تفيدها في صراعها مع الشرق، فهي تخشى أن تترك أي فراغ جيوسياسيّ من الممكن أن تملأه روسيا وإيران بشكل سريع. كما أنّ الاستثمار في الأزمات لطالما كان سياسة كل الإدارات الأميركية المتعاقبة خاصة في منطقة الشرق الأوسط. وعليه فمن المحتمل أن تفاقم إدارة بايدن من المعاناة السورية أكثر من أي وقت مضى، عبر زيادة الضغوط الاقتصادية على دمشق.
أمّا لبنان الذي لا يزال يرزح تحت وطأة أزمته الاقتصادية والمعيشية منذ أواخر عام 2019، فينتظر اليوم أي انفراج في الاستحقاق الرئاسي، كبوابة عبور نحو الاستقرار وربما النهوض. إلّا أنّ تعقيدات المنطقة والعالم جعلت من هذا العبور أمراً في غاية الصعوبة. كما هو الحال في سوريا، فإن تفاقم الأوضاع المعيشية والانهيار المستمر لليرة اللبنانية هو مؤشّر واضح على أن الحلول الاقتصادية كما السياسية لا تبدو في متناول يد القادة اللبنانيين وحدهم. وبما أن الساحة اللبنانية هشّة أمام مختلف التدخّلات الخارجية، فإن أي تسوية في لبنان تحتاج بالضرورة إلى تقاطعات جيوسياسية ومصلحية لجهات إقليمية ودولية مختلفة.
بالمحصّلة، هل الاختلال المحتمل في التوازنات الخارجية في الربيع المقبل، سيؤدي إلى المزيد من التعقيدات التي من الممكن أن تجعل لبنان من جديد ساحة مفتوحة لتصفية الحسابات؟
بلا شك إنّ أكثر القضايا الساخنة في لبنان، والتي من الممكن أن يستخدمها الخارج كورقة ضغط في الساحة اللبنانية، هي استغلال ملف التحقيق في انفجار مرفأ بيروت عبر إعادته إلى الواجهة من جديد، كما شهدنا في الأسابيع القليلة الماضية من "هرج ومرج" في المؤسسة القضائية اللبنانية بين مجموعة من القضاة، يشكّ الكثيرون في طبيعة عملهم وولائهم السياسي. كما أنّ الوضع المعيشي المتأزّم قد يكون بأي لحظة عاملاً مسبّباً لعودة المظاهرات والاحتجاجات الشعبية على شاكلة ما حدث في 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019.
بينما في سيناريو مختلف، هل يمكن أن يتقاطع الخارج على التسوية في لبنان بصرف النظر عن الصراعات المحتدمة في محيطه، بدل أن تبقى الأزمة اللبنانية مرتبطة بسلسلة أزمات المنطقة؟
أصبح من المسلّمات أنّ تماسك المقاومة في لبنان يُعد من أهم الهواجس الغربية، ولا سيّما ذلك المتعلّق بأمن "إسرائيل"، فبعد عودة بنيامين نتنياهو إلى سدّة الحكم في الكيان الصهيوني، قد لا تبقى الحدود اللبنانية الجنوبية في مأمن عن أي تصعيد عسكري محتمل. إذاً، فإن دفع الأمور في لبنان إلى الفوضى من جديد قد لا يحقّق، من هذه الزاوية، المصالح الغربية، خاصة تلك المرتبطة بأمن الطاقة في شرق المتوسط.
وعليه، قد يتمايز لبنان عن محيطه بسبب صمود القوى المناوئة للمحور الغربي فيه، لينتزع من خلالها اتّفاقات وتفاهمات إقليمية ودولية خاصة به، لتثمر حلولاً داخلية على الصعيدين الاقتصادي والسياسي.
وبناءً على كل ما تقدّم، فإن الأشهر القليلة المقبلة، ستكون مليئةً بالأحداث العالمية المتعلّقة في الصراع الروسي-الأوكراني، والتي حتماً ستلقي بظلالها على منطقتنا بشكل مباشر أو غير مباشر، ومن هنا قد يحمل هذا الشهر معه تطوّرات مهمّة، في الساحتين اللبنانية والسورية. في الوقت الذي يتطلّع فيه الشعبان الشقيقان لأي بارقة أمل تحرّرهما من سطوة الهيمنة الغربية على مستقبلهما.