دور الصين في الاتفاق الإيراني-السعودي: بين مقتضيات المصالح الآنية والدور الجيوبوليتيكي
لفهم ظروف الاتفاق ووضعه في إطاره على مستوى الدور الجيوبوليتيكي الصيني، من الضروري رصد طبيعة العلاقات المصلحية الصينية -الإيرانية والصينية – السعودية.
ينطلق الدور الجيوبوليتيكي لدولة ما من مدى تماسك نظامها الداخلي، وامتلاكها عوامل القوة التي تؤهّلها للعب دور خارجي فاعل. وبالنظر إلى الصين، فمن الواضح أنها لم تتخذ قرار لعب دورها الجيوبوليتيكي إلا على المستوى الاقتصادي حصراً. من هنا، يمكننا فهم مشروع "الحزام والطريق" الذي لا تألو جهداً في العمل على تحقيق أهدافه.
حتى الآن، لم تسع بكين إلى مقارعة واشنطن سياسياً وعسكرياً في مناطق النفوذ الأميركي، ولا سيما في الشرق الأوسط، بل اكتفت بالتعطيل من خلال استخدام الفيتو في مجلس الأمن، خلال الأزمة السورية. ما عدا ذلك، لم تقم بأي خطوة تفيد بتبدل رؤيتها لدورها الجيوبوليتيكي. هذا يدفعنا إلى القول بأنه على الرغم من التحليلات المتعددة للاتفاق بين إيران والسعودية، والذي عقد في الصين، فإن دلالاته حتى الآن لا تتعدى تحقيق مصالحها المباشرة مع طهران والرياض.
فعند الحديث عن الدور الجيوبوليتيكي للصين، لا بدّ من الأخذ في الاعتبار أمرين أساسيين، أولهما استراتيجية الصين الطويلة الأمد، والتي تخطو بكين من خلالها خطوات مدروسة في إدارة الملفات الخارجية، ولا سيما في مناطق نفوذ واشنطن، وعلى رأسها الشرق الأوسط. وثانيهما، العمل على حماية مشروعها "الحزام والطريق"، والاستمرار في تحقيق خطوات كبرى اقتصادية، من دون استفزاز الولايات المتحدة، وهو ما تعتقد الصين بأنه قد يتسبب في إعاقة مسيرة هذا المشروع.
بالنظر إلى الاتفاق، فإنه جاء عقب استضافة بكين في الفترة من 6 إلى 10 آذار/مارس الجاري مباحثات سعودية-إيرانية "استجابة لمبادرة من الرئيس الصيني شي جين بينغ، وبالاتفاق مع قيادتَي المملكة والجمهورية الإيرانية، ورغبة كل منهما في حل الخلافات" وفق بيان ثلاثي مشترك.
بناءً على ذلك، يمكن تحديد أطر الاتفاق، الذي عدّه كبير الدبلوماسيين الصينيين، وانغ يي، بمنزلة "نصر للحوار ونصر للسلام" قائلاً إن الصين ستواصل لعب دور بنّاء في التعامل مع القضايا الشائكة في العالم، وستظهر تحلّيها "بالمسؤولية" بصفتها دولة كبرى.
إن القراءة الأولى لهذا الموقف قد توحي بتقدّم ما في الدور الصيني، لكن ما سيؤكد مدى تطور الدور الجيوبوليتيكي الصيني، انطلاقاً من دورها في هذا الاتفاق، هو انعكاسه على إدارة ملفات المنطقة بشكل عام. فالملفات الأساسية التي لا تزال تمسك واشنطن بمفاصلها، أو التي لا يمكن إدارتها خارج الدور الأميركي تتمثل في ليبيا والعراق ولبنان وسوريا، في حين تبدو الساحة اليمنية إقليمية بامتياز، وهي ترتكز إلى دور إيران والسعودية.
من هنا، يمكن فهم موقف البيت الأبيض الذي سارع للتأكيد أن واشنطن كانت على اطّلاع على المباحثات بين الأطراف، وقال المتحدث باسم الأمن القومي، جون كيربي، إن الولايات المتحدة تتابع "من كثب" سلوك الصين في الشرق الأوسط وأماكن أخرى. هذا يعني أن واشنطن ترقب حدود الدور الجيوبوليتيكي الصيني بشكل واضح.
على المستوى الإيراني، عدّ يحيى رحيم صفوي، مستشار المرشد الإيراني، الاتفاق بين إيران والسعودية على استئناف العلاقات الدبلوماسية زلزالاً في الساحة السياسية، وبداية مرحلة ما بعد الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، لكن يبقى هذا الوضع رهناً بمدى تحريك ملفات الساحات المتعددة المذكورة سابقاً.
من المنطقي الارتكاز على موقف بعثة إيران لدى الأمم المتحدة التي رأت أن التوصل إلى اتفاق مع السعودية لإعادة العلاقات الثنائية، سيسهم في التوصل إلى تسوية سياسية تنهي الحرب في اليمن، حسبما نقلت وسائل إعلام رسمية إيرانية، وهذا ما يعدّ واقعياً، ويعبّر عن مفاعيل الاتفاق على المستوى العام بشكل فعلي.
لفهم ظروف الاتفاق ووضعه في إطاره على مستوى الدور الجيوبوليتيكي الصيني، من الضروري رصد طبيعة العلاقات المصلحية الصينية -الإيرانية والصينية – السعودية.
على مستوى السعودية، يبيّن حجم التعاون الاقتصادي ضرورة سعي الصين لحماية مصالحها مع السعودية وإيران، وهو ما شكّل ركيزة لسعي بكين للوصول إلى الاتفاق.
على مستوى العلاقة مع إيران، خلال زيارة وزير الخارجية الصيني إلى طهران، تم توقيع ما سُمّي بـ"الوثيقة الشاملة للتعاون"، التي عدّها كثيرون خريطة طريق الشراكة الاستراتيجية بين طهران وبكين. و"خريطة طريق متكاملة وذات أبعاد اقتصادية وسياسية"، تركز على "الأبعاد الاقتصادية التي تُعدّ المحور الأساس لها، ومشاركة إيران في مشروع الحزام والطريق"، وإذا استعرضنا تفاصيل الصفقة الصينية-الإيرانية التي أثارت جدلاً واسعاً في توقيتها وحجم الاستثمارات الناشئة عنها، والتي تقارب 400 مليار دولار يمكننا فهم اهتمام الصين باستقرار وضع المنطقة، وضرورة تحقيق تقارب بين إيران والسعودية.
استراتيجياً، تضمنت اتفاقية الشراكة بين الصين وإيران تطوير ميناءي تشابهار وجاسك، وهذا الأخير لا يبعد كثيراً من مضيق هرمز، لن يكون هذا الاقتراب بمنأى عما تريد الصين تحقيقه في المحيط الهندي.
منذ عام 2010، والصين تعدّ أكبر مستورد للنفط في العالم، وهذا ما يجعل كلاً من إيران والسعودية في سلم أولوياتها.
بالنسبة إلى السعودية، فهي ترتبط مع الصين بعلاقات اقتصادية قوية، ولا سيما في مجال الطاقة، إذ تعدّ المملكة أكبر شريك لبكين في منطقة الشرق الأوسط، بالإضافة إلى أنها المصدر الأول للنفط بالنسبة إلى الصين.
وقد شهدت العلاقات بين الرياض وبكين تطوّراً لافتاً انعكس بشكل كبير على التعاون الاقتصادي والتجاري بين البلدين، إذ أسهم هذا التعاون في وصول حجم التبادل التجاري بين السعودية والصين إلى 87.3 مليار دولار في 2021.
احتلت الصين مركز الشريك التجاري الأول للمملكة في السنوات الخمس الأخيرة، إذ كانت الوجهة الأولى لصادرات السعودية ووارداتها الخارجية منذ العام 2018. وبلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين خلال السنوات الخمس الماضية 320 مليار دولار. واستحوذت السعودية على أكثر من 20.3% من استثمارات الصين في العالم العربي بين العامين 2005 و2020، والبالغة 196.9 مليار دولار.
وفي إطار زيارة رئيس جمهورية الصين الشعبية، شي جين بينغ، للسعودية في 7 كانون الأول/ديسمبر 2022، وقَّعت شركات سعودية وصينية 34 اتفاقية استثمارية، وشملت الاتفاقيات مجالات: الطاقة الخضراء والهيدروجين الأخضر والطاقة الشمسية الكهروضوئية وتقنية المعلومات والخدمات السحابية والنقل والخدمات اللوجستية والصناعات الطبية والإسكان ومصانع.
هذه القراءة لحجم التعاون الاقتصادي، ومحورية البلدين في مشروع "الحزام والطريق"، تفسر لنا حدود الدور الصيني في إنجاز اتفاق البلدين، وتجعل التفاؤل في التقدم الصيني في إدارة الملفات في المنطقة محدوداً حتى اللحظة.
في المحصلة، تحتاج الصين إلى تحقيق أمن الطاقة إذ إن 50% من احتياجاتها للبترول تأتي من منطقة الخليج، وعلى رأسها المملكة السعودية، كما أن موقع إيران الجغرافي ضمن مشروع "طريق الحرير"، وهو المشروع الأهم لدى الصين، يعدّ محورياً. فالصين تحتاج إلى نقاط ارتكاز لتربط 125 دولة من خلال 6 مسارات رئيسية تربط الصين بباقي دول آسيا وأفريقيا وأوروبا، وإيران هي من أهم نقاط الارتكاز في مشروع "الحزام والطريق".
لذلك، من المبكر الحديث عن تبدل في دور الصين الجيوبوليتيكي خارج النطاق الاقتصادي، ويبقى أن كلاً من إيران والسعودية، بالإضافة إلى مصالحهما مع الصين، تشكل الساحة اليمنية مصلحة مشتركة وحاجة في الوقت نفسه، قد يكون للاتفاق تأثير إيجابي عليها، وما عدا ذلك يبقى رهناً بموقف واشنطن وإقدام بكين.